في اجتماعين عامَّين رئيسيَّين عُقدا خلال الأسبوع الماضي - في برلين في 18 تشرين الثاني /نوفمبر وفي لندن في 22 تشرين الثاني/ نوفمبر - ألقى ديفيد نورث، رئيس هيئة التحرير الدولية لموقع 'الاشتراكية العالمية'، محاضرتينٍ تناولتا الأزمة العالمية للرأسمالية وسعي إدارة ترامب نحو الديكتاتورية. يُعرض هنا نصُّ محاضرته في لندن كاملاً.
استغلَّ نورث كلا الحدثين للإعلان عن الإطلاق المرتقب لـ'الاشتراكية والذكاء الاصطناعي'، وهي أداةٌ رائدةٌ لمساعدة العمال والشباب على تنمية الوعي الاشتراكي.
في العقدين الثالث والرابع من القرن الماضي، اختار ليون تروتسكي طرح سؤال عنواناً للعديد من أهم مقالاته حول الأحداث السياسية المتلاحقة آنذاك. من أشهر تلك المقالات مقال 'إلى أين تتجه بريطانيا؟' الذي كتبه عام 1925 قبل عام واحد فقط من اندلاع الإضراب العام التاريخي، ومقال 'نحو الاشتراكية أم الرأسمالية؟' الذي كتبه أيضاً عام 1925، وتناول قضايا حرجة تتعلق بالسياسات الاقتصادية للدولة السوفيتية الجديدة، ومقال 'إلى أين تتجه فرنسا؟' الذي كتبه عام 1934 في وقت دخلت فيه البلاد فترة صراع طبقي حاد.
تطرح محاضرة الليلة سؤال 'إلى أين تتجه أمريكا؟' أعتقد أن معظم الناس، إذا سُئلوا، سيجيبون بسرعة: 'إلى الجحيم'. ولو كان الجواب مجازياً فقط، لكانت الإجابة مبررة.
هناك عبارة مشابهة أخرى، وهي ثمة عبارة تصف الوضع الأمريكي وهي 'الذهاب إلى الجحيم في سلة يد' وهي دلالة على أزمة تتجه بسرعة ودون سيطرة نحو الكارثة.
أحد التحديات التي واجهتها أثناء إعدادي لهذه المحاضرة هو مواكبة سرعة الأزمة السياسية.
يوم الخميس، نشر دونالد ترامب سلسلة من الإدانات لأعضاء مجلس الشيوخ والنواب الديمقراطيين، متهماً إياهم بالخيانة، ومطالباً بمعاقبتهم 'بالموت'. جاءت تصريحاته رداً على مقطع فيديو دعا فيه المشرعون الديمقراطيون الجيش إلى 'رفض الأوامر غير القانونية' التي من شأنها أن تجبرهم على انتهاك قسمهم باحترام الدستور والحفاظ عليه.
يتمتع العديد من الديمقراطيين الذين نشروا الفيديو بعلاقات طويلة الأمد مع وكالات الاستخبارات الأمريكية، لذا يجب افتراض أن تحذيرهم استند إلى معلومات رفيعة المستوى حول خطط ترامب لاستخدام الجيش للإطاحة بالدستور وإقامة ديكتاتورية.
خاطب الفيديو الجيش مباشرةً:
نعلم أنكم تتعرضون لضغط هائل في الوقت الحالي. يثق الأمريكيون بجيشهم، لكن هذه الثقة في خطر. ...
تضع هذه الإدارة عسكرينا النظاميين ومحترفي أجهزة الاستخبارات في مواجهة المواطنين الأمريكيين. في الوقت الحالي، لا تأتي التهديدات التي يتعرض لها دستورنا من الخارج فحسب، بل من هنا في الداخل. قوانيننا واضحة. يمكنكم رفض الأوامر غير القانونية. يجب عليكم رفضها. لا أحد مُلزم بتنفيذ الأوامر التي تنتهك القانون أو دستورنا.
هذا هو نوع اللغة التي يستخدمها السياسيون المدنيون المحاصرون في خضم انقلاب عسكري. يؤكد فيديو المشرعين، ورد ترامب، أن ما يحدث الآن هو انهيار غير مسبوق تاريخياً للديمقراطية الأمريكية، وأن شخصية دونالد ترامب البشعة ليست سوى مظهر سطحي منه. لذا لابد لفهم الأزمة وأسبابها وعواقبها، من الغوص في أعماقها، ودراسة جذورها الاقتصادية والاجتماعية العميقة.
لا يُمكن تفسير سبب وضع النخبة الحاكمة حكومة الولايات المتحدة في أيدي مجرمٍ مُختل عقلياً إلا من خلال هذا التحليل المُعمّق، وربط ترامب بالبيئة الاجتماعية التي نشأ فيها، والمصالح الطبقية التي يُمثلها، وأزمة النظام الرأسمالي، والتناقضات الهائلة في المجتمع الأمريكي، والتحديات العالمية التي تُواجه الإمبريالية الأمريكية.
هناك فقرةٌ شهيرةٌ بحقٍّ في رواية ماركس عام 1850 عن 'الصراعات الطبقية في فرنسا'، وصف فيها النخبة البرجوازية التي حكمت البلاد في عهد لويس فيليب. كتب ماركس:
في كل لحظة، كانت الرغبات المفرطة وغير الصحية تتجلى، خاصة في قمة المجتمع البرجوازي، والتي تتعارض مع القوانين البرجوازية نفسها. هذه هي الرغبات التي سعت الثروة المتأتية من المقامرة إلى إشباعها بطبيعتها، حيث أصبحت المتعة فاسدة، وامتزجت فيها الأموال والقذارة والدماء. إن الأرستقراطية المالية، في أسلوب اكتسابها كما في ملذاتها، ليست سوى ولادة جديدة للبروليتاريا الرثة على قمم المجتمع البرجوازي.
لو كان ماركس حياً، لكتب عن النظام الحالي في الولايات المتحدة ما يلي:
تُفسد أوليغارشية وول ستريت وحلفاؤها من الشركات القانون، وتُكَوِّن الحكومة، وتُشكِّل الرأي العام من خلال إعلام فاسد يُشوِّه الواقع الاجتماعي ويُخفيه. يُصيب الاحتيال الإجرامي، والرشوة المُقنَّعة، والهوس الجامح بالثروات الشخصية كل طبقة من النخبة، من البيت الأبيض، والكونغرس، والقضاء، ومجالس إدارة الشركات، إلى قلاع الأوساط الأكاديمية المرموقة. لا ينبع تراكم المليارات من الإنتاج، بل من المضاربة، والتلاعب بالديون، ونهب الموارد الاجتماعية، وإفقار جماهير الشعب.
إن جشع الأوليغارشية الذي لا يشبع، وشغفها بإشباع الذات، لا يصطدم فقط بالقانون البرجوازي، بل وبأبسط المبادئ الأخلاقية. من البيت الأبيض وبيت دعارة مار-آ-لاغو إلى العقارات الفارهة، تسود شهواتٌ استغلاليةٌ منحرفةٌ بلا رادع: يرحب المليارديرات والسياسيون رفيعو المستوى بخدمات تجار الجنس مع الأطفال مثل إبستين، مستمتعين باستغلال الضعفاء، ففي تلك الدوائر، لا ينفصل المال والفساد والعنف.
إن 'فن الصفقة' الذي يتبناه ترامب هو أسلوب عمل الطبقة الرأسمالية، الذي يشمل كل أشكال الإجرام المؤسسي والحكومي بمعنى تكديس الأرباح من بيع الطائرات والصواريخ المستخدمة في هجوم الإبادة على غزة، وقتل صيادين مجهولين في المياه الدولية قبالة سواحل فنزويلا، والنشر غير القانوني للقوات العسكرية في المدن الأمريكية، وتوقيف وترحيل المهاجرين من قبل عملاء دائرة الهجرة والجمارك الأمريكية، في انتهاك لجميع الحقوق القانونية، من الولايات المتحدة.
إن الأوليغارشية المالية والشركات، في عملياتها التجارية وحفلاتها الجنسية، ليست سوى مافيا عظمى في قمة المجتمع الرأسمالي، تتباهى بالجريمة والانحراف بينما يدفع الناس العاديون الثمن من البؤس والدماء.
بعد انتخاب ترامب للمرة الثانية في تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، أي قبل عام واحد بالضبط، حذر موقع الاشتراكية العالمية من أن تهديداته المتكررة بالحكم كديكتاتور ما كانت مجرد تعبير عن رغبته في محاكاة بطله الشخصي، أدولف هتلر. بل إن هذه التهديدات استبقت إعادة هيكلة السياسة الأمريكية بناءً على بنيتها الطبقية الحقيقية. إن التركيز الهائل للثروة في شريحة ضئيلة من المجتمع الأمريكي لا يتوافق مع الأشكال التقليدية للحكم الديمقراطي البرجوازي.
يجري مواءمة الهيكل السياسي للولايات المتحدة مع بنيتها الطبقية. السمة الأساسية للمجتمع الأمريكي هي مستوى التفاوت الاجتماعي المذهل. ولا قيمة فكرية لأي نقاش جاد حول الواقع الأمريكي يتجاهل هذه القضية وهو مخادع سياسياً، تماماً مثل نقاش حول سياسات روما القديمة التي أغفلت العبودية. مصطلح 'الأوليغارشية' ليس مجرد بلاغة، بل هو وصف مناسب لتركيز الثروة والسلطة الهائلين في الولايات المتحدة.
ففي 3 تشرين الثاني / نوفمبر، نشرت منظمة أوكسفام الإنسانية تقريرًا بعنوان 'عدم المساواة: صعود أوليغارشية أمريكية جديدة والأجندة التي نحتاجها'. من بين أهم نتائجه:
- يمتلك أغنى 0.1% في الولايات المتحدة 12.6% من الأصول و24% من سوق الأسهم.
- بين عامي 1989 و2022، اكتسبت أسرة أمريكية في الشريحة المئوية التاسعة والتسعين ثروةً فاقت ثروة الأسرة المتوسطة بـ 101 مرة، وثروةً تجاوزت ثروة أسرة في الشريحة المئوية العشرين بـ 987 مرة.
- يُعتبر أكثر من 40% من سكان الولايات المتحدة - بمن فيهم 48.9% من الأطفال - فقراء أو من ذوي الدخل المنخفض.
ذكر تقرير أوكسفام:
في العام الماضي وحده، ازدادت ثروة أغنى 10 مليارديرات بمقدار 698 مليار دولار. ومنذ عام 2020، ارتفعت ثرواتهم المعدلة حسب التضخم بنسبة 526%. ويسيطر أغنى 0.0001% (1 من كل مليون) على حصة أكبر من الثروة مقارنةً بالعصر الذهبي، وهي حقبة من تاريخ الولايات المتحدة اتسمت بعدم المساواة الشديدة. ... يمتلك أغنى 1% نصف سوق الأسهم (49.9%)، في حين امتلك النصف الأدنى من سكان الولايات المتحدة 1% فقط من سوق الأسهم.
كشف التقرير الادعاء بأن الغالبية العظمى من الأمريكيين من الطبقة العاملة يشاركون في ثروة البلاد. وكتب:
على الرغم من المفاهيم السائدة عن الولايات المتحدة كمجتمع مزدهر بشكل استثنائي، فإن المقارنات الدولية توضح حقيقة مختلفة. بالنظر إلى أكبر 10 اقتصادات في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، فإن الولايات المتحدة لديها أعلى معدل للفقر النسبي، وثاني أعلى معدل لفقر الأطفال ووفيات الرضع، وثاني أدنى متوسط عمر متوقع.
قد تبدو هذه النتائج السيئة مفاجئة، لكنها تتسق مع وضع البلاد الشاذ في مجال السياسة الاجتماعية. احتلت الولايات المتحدة، ضمن نفس المجموعة من الدول المماثلة، المرتبة الأخيرة في سخاء إعانات البطالة، وقبل الأخيرة في الإنفاق العام على الأسر التي لديها أطفال، والسابعة من أصل عشر في الإنفاق الاجتماعي العام بشكل عام، والأولى في عدد ساعات العمل اللازمة للخروج من الفقر. من بين أكبر عشر اقتصادات في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، احتل نظام الضرائب والتحويلات الأمريكي المرتبة الثانية من الأسفل من حيث في الحد من عدم المساواة.
إن التركيز الشديد للثروة لا ينفصل عن السلطة السياسية الأوليغارشية. يمتلك مجلس وزراء ترامب وكبار المعينين صافي ثروة إجمالية تجاوزت 60 مليار دولار. قزمت ثروة هذه الإدارة جميع الإدارات السابقة. فستة عشر من أغنى خمسة وعشرين معين من قبل ترامب مصنفون بين 813 مليارديراً في دولة بلغ عدد سكانها 341 مليون نسمة، مما يضعهم ضمن أعلى 0.0001%. هذا ليس تمثيلاً رمزياً، بل هو حكم مباشر من قبل الأوليغارشية.
من سمات كل طبقة حاكمة أنها تزداد عدوانيةً مع اقترابها من الفناء. وكلما ازداد نظامها لاعقلانيةً، ازدادت عنف محاولات إضفاء الشرعية عليه. ويمكن إيجاد مثالٍ مشابهٍ لذلك في العقود التي سبقت الثورة الفرنسية. فمع سعي النبلاء لاستعادة امتيازاتهم المفقودة والدفاع عن امتيازاتهم المهددة، ازدادت أساليبهم تطرفاً وصلابةً. لم يكن الهجوم الأرستقراطي في العقد السابع من القرن الثامن عشر وحتى عام 1789 رد فعلٍ دفاعي، بل محاولةً عدوانيةً لعكس مسار التآكل التاريخي للامتياز الإقطاعي. ومع شعور الطبقة الأرستقراطية بزوالها، تجلى يأسها في تأكيداتٍ عنيفةٍ على السلطة التعسفية. وبلغت هذه العملية ذروتها مع اندلاع الثورة في تموز/ يوليو 1789.
في العقود التي سبقت الثورة الأمريكية الثانية (1861-1865)، سعى مالكو العبيد في الجنوب إلى تجريم جميع أشكال معارضة العبودية والقضاء عليها. وعلى غرار عمليات عملاء دائرة الهجرة والجمارك الأمريكية (ICE) اليوم ضد المهاجرين، مكّن قانون العبيد الهاربين لعام 1850 العملاء الفيدراليين من القبض على العبيد الهاربين الذين فروا إلى الشمال وإعادتهم إلى أسيادهم. في عام 1857، أعلنت المحكمة العليا، الخاضعة لسيطرة سلطة مالكي العبيد، أن العبيد مجرد ممتلكات، ولا تحميهم القوانين التي تنطبق على المواطنين والبشر.
وفي المحصلة، رفض طغاة الجنوب قبول انتخاب أبراهام لينكولن رئيساً، وبدأوا تمرداً ضد الولايات المتحدة في نيسان /أبريل 1861. وأعلنت الولايات الكونفدرالية الأمريكية العبودية أساس الحضارة. تطلّب قمع التمرد وإلغاء العبودية حرباً أهلية دامية، أودت بحياة أكثر من 700 ألف شخص.
تشهد الولايات المتحدة اليوم عملية مماثلة من رد الفعل السياسي والتراجع التاريخي. فقد ازداد استعراض السلطة الأوليغارشية وقاحة، المعادي لأشكال الشرعية الديمقراطية التي منحت الحكم الرأسمالي، على الأقل، مظهراً من الرضا الشعبي. ومجدداً إرث العبودية، أمر ترامب بإعادة بناء تماثيل القادة العسكريين الكونفدراليين، التي أُزيلت من الأماكن العامة والقواعد العسكرية. وأصبح شعار 'الجنوب سينهض من جديد' الذي رفعه العنصريون المؤيدون للكونفدرالية سياسة الحكومة الأمريكية.
تأمّل المشهد الذي نُظّم في البيت الأبيض في أوائل أيلول /سبتمبر: كاد أن يضمّ جميع قادة الأوليغارشية التكنولوجية، بمن فيهم بيل غيتس من مايكروسوفت، وتيم كوك من آبل، وسام ألتمان من أوبن إيه آي، وسيرجي برين من غوغل، ومارك زوكربيرج من ميتا، وغيرهم من المليارديرات والمديرين التنفيذيين للشركات، الذين يستعرضوا أنفسهم في مقرّ الرئاسة، وكان وجودهم دليلاً على تبعية السلطة الحكومية الرسمية التامة للسلطة المالية والشركات. ما كان ذلك اجتماعاً خاصاً، بل تتويجاً عاماً. يتصرف رئيس الولايات المتحدة كأفظع ممثل لهذه الأوليغارشية الطفيلية. وبعد ذلك بوقت قصير، وقع مشهدٌ أكثر غرابة: تناول ترامب وعشرات المليارديرات والمديرين التنفيذيين للشركات العشاء في قلعة وندسور مع ملك إنجلترا.
ولتوضيح مستويات الثروة التي يجسدونها، بلغ مجموع الثروة الشخصية لعشرين من أغنى الحاضرين 274 مليار دولار. ومثل متوسط ثروة الفرد البالغ 11.4 مليار دولار أكثر من 67 ألف ضعف ثروة المواطن البريطاني العادي. وقد مثلوا مجتمعين شركات بقيمة سوقية بلغت 17.7 تريليون دولار، أي أكثر من القيمة الإجمالية لجميع الشركات المدرجة في البورصة البريطانية.
تُعتبر العائلة المالكة فقيرة بمقاييس ضيوفها، إذ لا تملك سوى ثلث بالمئة من الثروة الشخصية لهؤلاء الأشخاص العشرين. لكن ما تقدمه هو تاريخ طويل من الامتيازات الموروثة، وتقليد قرون من الحكم والترف، وهو ما تجده الأرستقراطية المالية والشركات الجديدة جذاباً للغاية.
في هذه الأثناء، وعلى الأراضي الأمريكية، يُشيّد ترامب نصباً تذكارياً للسلطة الأوليغارشية يتجاوز كل السوابق التاريخية. تبلغ مساحة المقر التنفيذي للبيت الأبيض، وهو المبنى المركزي الذي يضم الرئيس ويُعد المساحة الاحتفالية الرئيسية، حوالي 55000 قدم مربع. ستمتد قاعة ترامب الجديدة، التي يمولها مانحون مليارديرات وشركات كبرى، على مساحة 90000 قدم مربع، أي ما يقرب من ضعف مساحة البيت الأبيض نفسه. يتم تحويل البيت الأبيض إلى قصر. هذا هو بناء فرساي على نهر بوتوماك، وهو تأكيد صارخ على تفوق الأوليغارشية. كما يتم تجديد المقر القديم. نشر ترامب بفخر صوراً لحمّام مُعاد تزيينه استخدمه لينكولن سابقاً. يتميز الآن بمقعد مرحاض ذهبي، يمكن لترامب أن يستقر عليه بينما يفكر ويخطط لجرائم جديدة.
تُعدّ تصرفات إدارة ترامب بمجملها محاولةً لفرض أشكالٍ عتيقة من الحكم هرمية، استبدادية، ومعادية للديمقراطية صراحةً على مجتمعٍ جماهيريٍّ حديثٍ يتميز بقدراتٍ إنتاجيةٍ هائلة، وتكنولوجيا متقدمة، واتصالاتٍ عالميةٍ فورية، وإمكاناتٍ تنظيميةٍ لمليارات العمال المندمجين في الاقتصاد العالمي. هذه المفارقة التاريخية، اندماج الأشكال القديمة من الأوليغارشية الاستبدادية مع الجهاز التكنولوجي والإنتاجي للاقتصاد العالمي، تُخلق تناقضاتٍ شديدةً للغاية.
تُبرر الثورة المضادة المتكشفة في السياسة، حتماً، بثورة مضادة في الفكر.
'فالتنوير المظلم'، باستدعائه الصريح لنظام ملكي قائم على الشركات، هو محاولة لتقديم تبرير فلسفي لهذه العودة إلى الاستبداد متخفياً في لغة العقلانية التكنولوجية المعاصرة. كتب بيتر ثيل، مؤسس باي بال وراعي نائب الرئيس جيه دي فانس وعدد لا يُحصى من السياسيين الفاشيين الآخرين، عام 2009: 'والأهم من ذلك، أنني لم أعد أعتقد أن الحرية والديمقراطية متوافقان'. واقترح كيرتس يارفين، أحد أبرز 'فلاسفة' التنوير المظلم، أن تُهيكل الحكومة على هيئة شركة، مع رئيس تنفيذي ملكي يتمتع بسلطة مطلقة.
هل نشهد مجرد أفعال مقززة وغير عقلانية لأفراد مدفوعين بجشع لا حدود له وجوع للسلطة؟ أم أن هناك أساس أعمق موضوعي لتلك الظواهر متجذر في القوانين الداخلية للتراكم الرأسمالي؟
الإجابة الصحيحة على هذا السؤال ضرورية، لأن نقد الرأسمالية المبني على الغضب الأخلاقي، مهما كان مبرراً، لا يمكن أن يوفر أساساً لنضال ثوري ضدها. لقد شهدت غزة مظاهرات حاشدة لا حصر لها ضد الإبادة الجماعية، لكن ما غاب تماماً عن هذه المظاهرات هو منظور سياسي واقعي وبرنامج قائم على فهم علمي للعلاقة بين الإبادة الجماعية والنظام الرأسمالي الإمبريالي القائم. في غياب مثل هذا التحليل، أصبحت الاحتجاجات نداءً للحكومات والشركات الإمبريالية، الراعية لإسرائيل والمدافعة عنها، لرفع دعمها للإبادة الجماعية.
كشف مقال نُشر في صحيفة وول ستريت جورنال بتاريخ 12 نوفمبر/تشرين الثاني عن عبثية تلك المناشدات. وجاء في المقال، بعنوان 'حرب غزة تجارة رابحة للشركات الأمريكية':
أدى الصراع إلى إنشاء خط أنابيب أسلحة غير مسبوق من الولايات المتحدة إلى إسرائيل، وهو مستمر في التدفق، مما يُولّد أعمالاً ضخمة لشركات أمريكية كبرى، بما في ذلك بوينغ ونورثروب غرومان وكاتربيلر.
شهدت مبيعات الأسلحة الأمريكية إلى إسرائيل ارتفاعاً حاداً منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، حيث وافقت واشنطن على بيع أسلحة وذخائر ومعدات أخرى للجيش الإسرائيلي بقيمة تجاوزت 32 مليار دولار خلال تلك الفترة، وفقاً لتحليل وول ستريت جورنال لإفصاحات وزارة الخارجية.
لا يُوفر الغضب الأخلاقي توجيهاً فعالاً للأفعال السياسية. بل إن فشل المناشدات الأخلاقية للطبقة الحاكمة يؤدي عموماً إلى خيبة أمل وتشاؤم وإحباط. ناهيك عن إنه يؤدي إلى مبالغة هائلة في قوة النخب الحاكمة وهو أمرٌ لا يقل خطورةً على أي منظور ثوري حقيقي. ولا تُرى التناقضات المتأصلة في النظام الرأسمالي والتي تُهيئ الظروف لانفجار ثوري. الخطأ الأكبر على الإطلاق هو تجاهل، بل ورفض، الدور المحوري للطبقة العاملة في النضال ضد الرأسمالية.
إن جرائم الطبقة الحاكمة وهمجيتها ليست مجرد أعراض لسلوك سيء؛ بل تعكس كفاح نظام يائس للتغلب على تناقضاته الداخلية. إن عنف الأوليغارشية، ووقاحة استيلائها على السلطة، والانحدار نحو الاستبداد تعبر عن الأزمة النهائية لنمط الإنتاج الرأسمالي نفسه.
في السنوات الأخيرة، شاع استخدام كلمة 'تسييل النشاط إلى شكل مالي' لوصف تغيير جوهري في بنية الاقتصاد الرأسمالي الأمريكي والعالمي. وهي تشير إلى الانفصال المتزايد بين توليد الأرباح والثروة وعملية الإنتاج. تحقق الشركات جزءاً كبيراً من أرباحها من خلال المعاملات المالية مثل تداول الأوراق المالية، والإقراض، وجميع أشكال الاستثمارات المضاربة. تشمل السمات الرئيسية لذلك نمو البنوك والمستثمرين المؤسسيين مقارنةً بالاقتصاد الإنتاجي الحقيقي؛ وانتشار الأدوات المالية المعقدة (المشتقات، والقروض المضمونة، إلخ) والتوسع الهائل في الائتمان والديون.
يرتبط النمو الهائل لرأس المال الوهمي ارتباطاً وثيقاً بعملية تسييل الأعمال على شكل أموال، أي إن المطالبات بثروات مستقبلية لا تتناسب مع الاقتصاد الإنتاجي الحالي أو مستقلة عنه. إن حصة الأسهم هي مطالبة بأرباح مستقبلية لم تتحقق بعد، وقد لا تتحقق أبداً، في الإنتاج. فبين عامي 2000 و2020، مقابل كل دولار واحد من الاستثمار الجديد الصافي في الاقتصاد الحقيقي، تم إنشاء حوالي أربعة دولارات من الالتزامات المالية. وبالتالي، فإن عملية تسييل الأعمال ونمو رأس المال الوهمي يخلقان، بمرور الوقت، اقتصاداً يشبه بشكل متزايد مخطط بونزي، إذ يعتمد المستثمرون على قيم الأصول المتزايدة باستمرار. لا يُولى اهتمام كبير لما إذا كان تقييم سوق الأسهم لأصول الشركة له أي علاقة بالأرباح الحقيقية، بناءً على إنتاج وبيع السلع والخدمات.
أدى ذلك، على المستوى النظامي، إلى خلق عالم من الثروة الوهمية. يُقدر إجمالي الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة بحوالي 30-30.5 تريليون دولار. لكن إجمالي القيمة السوقية للشركات المدرجة في الولايات المتحدة بلغ حوالي 69-71 تريليون دولار بحلول تشرين الأول / أكتوبر من هذا العام. وبالتالي، فإن القيمة الإجمالية لجميع الأسهم الأمريكية المتداولة علناً تزيد عن ضعف، 220 في المئة، حجم الناتج الاقتصادي الأمريكي السنوي.
يُعد هذا انعكاسًاً تاريخياً لعلاقة سوق الأسهم بالاقتصاد الأمريكي. ففي عام 1971، كان إجمالي القيمة السوقية يعادل حوالي 80 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، أي حوالي ربع ما هو عليه اليوم. وهذا يعني أنه على مدار الخمسين عاماً الماضية، نمت قيمة الأصول المالية بشكل أسرع بكثير من الإنتاج الأساسي للسلع والخدمات. أصبحت الثروة المالية ورأس المال الحاصل عن المضاربة غير مرتبطين بالاقتصاد الحقيقي.
هذه العلاقة غير المستدامة بين القيمة الاسمية للسوق ليست غير مستدامة اقتصادياً فحسب، أو، وفق تعبير آلان جرينسبان الشهير، علامة على 'النشوة غير العقلانية'. إنها مظهر من مظاهر التراجع التاريخي للرأسمالية الأمريكية.
في الواقع، عند النظر في سياقه التاريخي، مثّل عام 1971 نقطة تحول أساسية في المسار الاقتصادي للرأسمالية الأمريكية.
ففي آب / أغسطس 1971، أنهى الرئيس ريتشارد نيكسون قابلية تحويل الدولار إلى ذهب بمعدل 35 دولاراً للأونصة، الذي حُدد في مؤتمر برايتون وودز الاقتصادي عام 1944 وكان بمنزلة أساس إعادة الاستقرار ونمو الاقتصاد الرأسمالي العالمي بعد الحرب العالمية الثانية. كان أساس قابلية تحويل الدولار إلى ذهب هو القوة الإنتاجية الهائلة والدور المهيمن للرأسمالية الأمريكية. وقد شكلت فوائض ميزان التجارة والمدفوعات الضخمة للولايات المتحدة أساس تعهدها باسترداد الدولارات التي تحتفظ بها الدول الأجنبية بالذهب.
لكن خلال لكن خلال العقدين السادس والسابع من القرن الماضي، ومع إعادة بناء أوروبا واليابان لاقتصاداتهما التي مزقتها الحرب، تراجعت هيمنة الولايات المتحدة باطراد. ومع تقلص فوائضها التجارية باطراد، أصبح التزامها بقابلية تحويل الدولار إلى ذهب غير قابل للتطبيق بشكل متزايد. وخوفاً من تهافت الناس على الدولار ونضوب احتياطياته من الذهب، رفض نيكسون الاتفاقيات التي تم التوصل إليها في برايتون وودز عام 1944.
أحدث ذلك القرار موجات صدمة اقتصادية عالمية، فتضاعف سعر النفط، مُقاساً بالدولار، أربعة أضعاف. وتعرض الدولار لانخفاض هائل في قيمته، وهي عملية استمرت على مدار نصف القرن الماضي.
مثل ارتفاع سعر الذهب من 35 دولاراً للأونصة عام 1971 إلى أكثر من 4000 دولار مقياساً موضوعياً بحكم واقع الانهيار طويل الأمد في القيمة الحقيقية للدولار الأمريكي. لذا، فإن الزيادة التي تجاوزت مئة ضعف ما عبرت عن أن الذهب أصبح 'أكثر قيمة' في جوهره، بل عبرت عن فقدان الدولار لقوته الشرائية ومصداقيته.
إذا اتخذ المرء الذهب كممثل لمستوى الأسعار العام على مدى عقود، فإن زيادة المئة ضعف عنت تآكلاً مماثلاً، قرابة حوالي 99 في المئة، للقيمة الحقيقية للدولار. وجسدت بضعة مؤشرات أخرى بوضوح التأثير التراكمي للتضخم والتوسع النقدي واستمرار تسييل الديون منذ نهاية نظام برايتون وودز.
كمقياس لوضعها الاقتصادي العالمي، كانت نهاية قابلية تحويل الدولار إلى ذهب مظهراً من مظاهر الأزمة. ومع ذلك، كانت إحدى نتائج ذلك القرار إزالة القيود الاقتصادية العقلانية على تراكم الديون والعجز. يمكن للولايات المتحدة تغطية ديونها وعجزها عن طريق طباعة الدولار.
منذ عام 1971، موّلت الولايات المتحدة عجزها المالي من خلال توسيع الائتمان، وفي العقود الأخيرة، من خلال التيسير الكمي غير المسبوق. أبرز الارتفاع الهائل في الدين الفيدرالي (من 400 مليار دولار عام 1971 إلى 38 تريليون دولار اليوم) مدى استدامة الدولار، ليس من خلال قابليته للتحويل، بل من خلال الطلب العالمي على الأصول بالدولار، وهو طلب يتعرض الآن لضغط واضح.
يُعدّ سعر الذهب بمنزلة استفتاء دولي على مصداقية السياسة النقدية الأمريكية. عكس الارتفاع من 35 دولاراً إلى 4000 دولار تحوّطاً واسعاً وطويل الأجل ضد انخفاض قيمة الدولار. وتماشى انخفاض حصة الدولار من الاحتياطيات العالمية، وتنويع البنوك المركزية لاستثماراتها في الذهب، ونمو ترتيبات التجارة بغير الدولار، جميعها مع ذلك الاتجاه.
لا يُشير هذا التغيير الجذري في قيمة الدولار إلى التضخم فحسب، بل إلى تفكك تاريخي لأساس قيمته. بل عبر عن التناقضات الأساسية، أي العجز التجاري الدائم، وإزالة الصناعة، والاعتماد على الديون، والمالية، التي تدفع الآن إلى الانحدار الأوسع للهيمنة الأميركية.
إن تراجع الدولار ليس مجرد ظاهرة نقدية. فعلى مدى العقود الخمسة الماضية، اتخذ تآكل الهيمنة الاقتصادية والجيوسياسية الأمريكية طابعاً تراكمياً ومنهجياً. والمؤشر الأبرز هو انهيار المركز المالي الخارجي للبلاد. فمنذ أوائل العقد الأخير في القرن الماضي، سجلت الولايات المتحدة عجزاً تجارياً متواصلاً ومتزايداً باستمرار؛ إذ تجاوز العجز السنوي في السلع، الذي بلغ نحو 100 مليار دولار عام 1990، تريليون دولار الآن. وعكس هذا الخلل المزمن انكماش القاعدة الصناعية للبلاد واعتمادها على التدفقات المالية العالمية لدعم الاستهلاك ونمو فقاعات الأصول. وقد انخفض صافي وضع الاستثمار الدولي للولايات المتحدة، الذي كان إيجابياً حتى أوائل العقد التاسع، إلى أكثر من 18 تريليون دولار، وهو أكبر وضع مدين في تاريخ العالم.
الولايات المتحدة تغرق في الديون. قبل خمسين عاماً، في عام 1975، في أعقاب انهيار برايتون وودز وفي بداية عملية التمويل، بلغ الدين الوطني 533 مليار دولار. وبحلول عام 1985، تضاعف ثلاث مرات ليصل إلى 1.8 تريليون دولار. وفي عام 2005، بلغ الدين الوطني 7.9 تريليون دولار. وبعد إنقاذ وول ستريت من قبل بنك التحوط الفيدرالي رداً على انهيار عام 2008، انفجر الدين الوطني. وبحلول عام 2015، وصل إلى 18.1 تريليون دولار. وفي عام 2020، وبعد عملية إنقاذ أخرى لوول ستريت، وصل الدين إلى 27 تريليون دولار. وبحلول عام 2025، يبلغ الدين الوطني 38 تريليون دولار.
وفي غضون نصف قرن، نما الدين الوطني بنحو 6000 في المئة. وخلال نفس الفترة، نما الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 1321 في المئة فقط. هذا يعني أن الدين الوطني قد نما بما يعادل خمسة أضعاف القيمة السوقية الإجمالية لجميع السلع والخدمات النهائية التي تنتجها الولايات المتحدة.
ولأخذ إطار زمني أقصر، في غضون ربع قرن، من عام 2000 إلى عام 2025، نما الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تقارب 187%، بينما نما الدين الوطني بنسبة 566%.
دعونا الآن ندرس ارتفاع الديون الشخصية. ففي عام 1975، بلغ إجمالي الديون الشخصية 500 مليار دولار. اعتباراً من الربع الثالث من عام 2025، بلغ الحجم الإجمالي لجميع أشكال الديون الشخصية، التي شملت الرهن العقاري وديون بطاقات الائتمان وقروض السيارات وقروض الطلاب وخطوط ائتمان حقوق الملكية المنزلية، 18059 تريليون دولار! مثل ذلك زيادة قدرها 36 ضعفاً.
وخلال الفترة نفسها، ظل الدخل السنوي لأدنى 90% من الأمريكيين راكداً. بلغت ديون الغالبية العظمى من الأمريكيين حوالي ثلث إجمالي ثروة أسرهم. نسبة الديون إلى ثروة الأسرة أكبر بكثير بالنسبة للنصف الأدنى من السكان. فبين عامي 2020 و2024، أعلن 2.45 مليون أمريكي إفلاسهم. وحتى أيلول /سبتمبر، أعلن 374 ألف أمريكي إفلاسهم. وبحلول نهاية العام، سيتجاوز إجمالي عدد حالات الإفلاس في عام 2025 عددها في عام 2024.
وفقاً لأحدث الأرقام، يعيش قرابة 75% من الأمريكيين على راتبهم الشهري. هذا يعني أنهم لا يملكون سوى القليل من المال، أو لا يملكون أي مال على الإطلاق، لتغطية حالات الطوارئ في حال حدوثها. ويعيش عشرات الملايين من الأمريكيين على شفا الفقر المدقع.
ينطبق وصف ديكنز الشهير لفرنسا عشية الثورة الفرنسية بأنها 'أفضل الأوقات... أسوأ الأوقات' على أمريكا اليوم، بل وعلى العالم أجمع. فبينما يعيش معظم الأمريكيين في درجات متفاوتة من الضائقة الاقتصادية، يتمتع جزء ضئيل منهم بمستوى من الثروة لم يسبق له مثيل في العصر الحديث، أو ربما حتى في تاريخ العالم. وقد تم تداول ثروة أصحاب المليارات على نطاق واسع لدرجة أنه لا داعي لاستعراضها في هذا التقرير. ويكفي القول إنه بعد الإعلان عن راتب إيلون ماسك البالغ تريليون دولار، لا يُستغرب المرء أن يقرأ أن الثروة الشخصية للاري إليسون، رئيس شركة أوراكل، قد زادت بمقدار 100 مليار دولار في يوم واحد فقط!
ومع ذلك، ما يجب التأكيد عليه هو أن الحجم الفلكي لثروات الأوليغارشيين يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتمويل الاقتصاد الأمريكي والعالمي. فثروتهم الشخصية مبنية على رأس مال وهمي ضخم. إنهم تجسيدٌ للطفيلية المالية، إذ لا يستمدون ثروتهم من إنتاج القيمة الحقيقية، بل من خلال تضخم المطالبات بالقيمة. إنهم مدينون بثرواتهم لتضخم أسعار الأصول، والرفع المالي، وإعادة شراء الأسهم، وعمليات الدمج والاستحواذ، وتوريق الديون، والمشتقات، والتحكيم. ويضمن تعاون الرؤساء وأعضاء الكونغرس والقضاة والمسؤولين الحكوميين الذين يشتريهم الأوليغارشيون ويرشونهم قانونية تلك العمليات ونجاحها.
ثروتهم ذات طابع خبيث وإجرامي اجتماعي، إذ تتطلب العمليات والسياسات التي تدعمها ليس فقط إفقار مليارات البشر، بل حروباً لا نهاية لها (للسيطرة على الأسواق والموارد الحيوية) وكارثة بيئية.
تُعد الإحصاءات التي ذكرتها، والتي يمكن تقديم قائمة أطول منها بكثير، أدلةً دامغة على الطابع الاجتماعي الرجعي والرجعي والإجرامي للرأسمالية الحديثة. لكن يبقى السؤال مطروحاً: هل تُثبت تلك الحقائق الانهيار التاريخي للنظام الرأسمالي؟ أو بعبارة أخرى، هل المعارضة الجماهيرية المتزايدة للرأسمالية مجرد رد فعل غاضب على التفاوت الاجتماعي، أم أنها، بمعنى تاريخي أعمق، مظهر موضوعي، في المجال السياسي، لحل ثوري للتناقضات الاقتصادية داخل النظام الرأسمالي؟
تتطلب الإجابة على هذا السؤال مراجعةً ودراسةً تداعيات تحليل ماركس لشكل القيمة واكتشافه وتفسيره لانخفاض معدل الربح، في سياق الصبغة المالية الحالية للاقتصاد الأمريكي والعالمي. فالقيمة، كما شرحها ماركس في المجلد الأول من رأس المال، ليست شيئاً مادياً، بل علاقة اجتماعية تتجلى في عملية الإنتاج. ففي النظام الرأسمالي، تُخلق القيمة من خلال قوة العمل التي يبذلها العمال. ويتحقق الربح من خلال شراء الطبقة الرأسمالية لقوة العمل، التي تُنتج، أثناء استخدامها، قيمةً تفوق الأجر الذي يتقاضاه العامل مقابل بيع قوة عمله للرأسمالي.
ففي تحليله لصيرورة العمل، حدد ماركس عنصري رأس المال: رأس المال المتغير، وهو الجزء من رأس المال الذي يستثمره الرأسمالي في الأجور لشراء قوة العمل، ورأس المال الثابت، وهو جميع المدخلات غير البشرية في عملية الإنتاج، بما في ذلك المواد الخام والآلات والأدوات والمباني اللازمة لإنتاج سلعة. بينما ينقل رأس المال الثابت قيمته إلى المنتج، فإن رأس المال المتغير، أي قوة العمل التي يبذلها العامل، ينتج فائض القيمة (القيمة التي يخلقها العمال في الإنتاج والتي تتجاوز القيمة المدفوعة لهم كأجور)، والتي يُشتق منها الربح في النهاية. يُعرّف ماركس معدل الربح بأنه نسبة فائض القيمة الناتج عن رأس المال المتغير إلى إجمالي رأس المال، المتغير والثابت، المستخدم في صيرورة العمل.
مع نمو القوى المنتجة، تزداد نسبة رأس المال الثابت إلى رأس المال المتغير، ما يؤدي إلى انخفاض معدل الربح. تُعدّ هذه العملية الخاضعة للقانون مصدر عدم الاستقرار والأزمة المتأصلة في النظام الرأسمالي. ومع ذلك، فإن الجهد الضروري الذي تبذله الطبقة الرأسمالية لمواجهة هذا الانخفاض في معدل الربح هو القوة الدافعة للابتكار التكنولوجي الهادف إلى زيادة كفاءة قوة العمل في إنتاج فائض القيمة. تشمل العوامل المقابلة أو المُعاكسة أيضاً توسع التجارة، واكتساب مصادر جديدة 'للعمالة الرخيصة'، وكما استعرضنا، الاعتماد المتزايد على الائتمان والديون لزيادة الأرباح بشكل مصطنع، حتى مع تزايد انخفاض النسبة الأساسية بين رأس المال الثابت والمتغير.
فخلال العام الماضي، انخرطت وول ستريت في موجة من الاستثمارات المضاربة في الذكاء الاصطناعي وتقنيات الأتمتة المرتبطة به. ويبدو أن هذا يُمثل تحقيقاً لحلم كل رئيس تنفيذي لشركة. فقد تم إيجاد طريقة لخفض تكاليف العمالة بشكل جذري. وفي الواقع، تعمل الشركات، داخل الولايات المتحدة وحول العالم، على تنفيذ تخفيضات هائلة في الوظائف.
في مختلف القطاعات، من الخدمات اللوجستية إلى تصنيع السيارات، إلى الفضاء، إلى الاتصالات، إلى الخدمات المصرفية، تُطبّق الشركات أنظمة ذكاء اصطناعي ضخمة تُلغي الأدوار المكتبية، ودعم العملاء، والبرمجة، والنمذجة المالية، وآلاف الوظائف الأخرى التي كانت وفرت فرص عمل في السابق.
ففي المملكة المتحدة، أعلنت شركات كبرى عن تسريحات وظيفية كبيرة مدفوعة بالذكاء الاصطناعي. تُخطط شركة بي تي (BT) لخفض ما يصل إلى 55,000 وظيفة بحلول عام 2030، ومن المتوقع استبدال ما يقرب من 10,000 وظيفة بالذكاء الاصطناعي والأتمتة في خدمة العملاء وإدارة الشبكات. ألغت شركة أفيفا 2,300 وظيفة في عمليات التأمين بعد استحواذها على شركة دايركت لاين (Direct Line). في حين أُلغت شركة بي بي (BP)6200 وظيفة، أي ما يُعادل 15% من قوتها العاملة في المكاتب، بحلول نهاية عام 2025، حيث أشار الرئيس التنفيذي موراي أوكينكلوس إلى مكاسب كفاءة الذكاء الاصطناعي كجزء من جهود خفض التكاليف.
تجتاح العملية نفسها أوروبا الغربية. ففي ألمانيا، ألغت شركة سيمنز 5600 وظيفة في مجال الأتمتة الصناعية؛ وألغت لوفتهانزا 4000 وظيفة إدارية؛ وتواجه شركة ZF Friedrichshafen فقدان ما بين 7600 و14000 وظيفة مرتبطة بالأتمتة؛ وتخفض شركة Telefónica ما بين 6000 و7000 وظيفة في خضم إعادة هيكلة الذكاء الاصطناعي.
وفي جميع أنحاء الولايات المتحدة، ألغت أمازون 14000 وظيفة في الشركات، وألغت UPS 48000 وظيفة من خلال مراكز آلية، واستبدلت Salesforce 4000 موظف في خدمة العملاء بوكلاء ذكاء اصطناعي.
ومع ذلك، وبغض النظر عن الزيادات قصيرة الأجل في الربحية التي تحققها الشركات الفردية، فإن الأثر الصافي للنزوح الهائل للعمالة البشرية، مصدر فائض القيمة، هو ارتفاع متسارع في نسبة رأس المال الثابت إلى رأس المال المتغير، وبالتالي انخفاض منهجي في معدل الربح.
تُفاقم هذه العملية التناقض الأساسي للرأسمالية الذي حدده ماركس إلى مستوى غير مسبوق. لا يمكن لفائض القيمة أن يتوسع بالوتيرة اللازمة للحفاظ على رأس المال الثابت المتراكم. النظام بأكمله في حالة من عدم الاستقرار المتزايد. يُعدّ تخفيض قيمة رأس المال، من خلال حالات الإفلاس والتصفية وشطب الأصول وتدمير رأس المال الثابت، استجابةً يائسةً لأزمة الربحية.
حتى في خضمّ جنون المضاربة الذي أطلقه الذكاء الاصطناعي، يُثار القلق بشأن العواقب الاجتماعية المدمرة لتطبيق هذه التقنية الجديدة. في مقال نُشر في العدد الأخير من مجلة الشؤون الخارجية [نوفمبر/ديسمبر 2025]، بعنوان 'النظام الراكد'، كتب البروفيسور مايكل بيكلي:
تزعم بعض التوقعات أن الذكاء الاصطناعي سيعزز الناتج العالمي بنسبة 30% سنوياً، لكن معظم الاقتصاديين يتوقعون ألا يضيف سوى نقطة مئوية واحدة إلى النمو السنوي. يتفوق الذكاء الاصطناعي في المهام الرقمية، إلا أن أصعب معوقات العمل تكمن في المجالين المادي والاجتماعي. تحتاج المستشفيات إلى ممرضات أكثر من حاجتها إلى فحوصات أسرع؛ وتحتاج المطاعم إلى طهاة أكثر من طلب الأجهزة اللوحية؛ ويتعين على المحامين إقناع القضاة، لا مجرد تحليل المذكرات القانونية. لا تزال الروبوتات خرقاء في بيئات العمل الواقعية، ولأن التعلم الآلي احتمالي، فإن الأخطاء حتمية، لذا يجب على البشر في كثير من الأحيان البقاء على اطلاع دائم. وانعكاساً لتلك القيود، أفاد حوالي 80% من الشركات التي تستخدم الذكاء الاصطناعي التوليدي أنه لم يكن له أي تأثير ملموس على أرباحها، وذلك في استطلاع عالمي أجرته شركة ماكينزي حول الذكاء الاصطناعي.
حتى لو استمر الذكاء الاصطناعي في التقدم، فقد تستغرق مكاسب الإنتاجية الرئيسية عقوداً لأن على الاقتصادات إعادة تعيد تنظيم نفسها حول أدوات جديدة. وهذا لا يوفر سوى القليل من الراحة لاقتصادات اليوم. لقد تباطأ النمو العالمي من أربعة في المئة في العقود الأولى من القرن الحادي والعشرين إلى حوالي ثلاثة في المئة اليوم، وبالكاد واحد في المئة في الاقتصادات المتقدمة. انخفض نمو الإنتاجية، الذي تراوح بين ثلاثة وأربعة في المائة سنوياً في العقدين السادس والسابع من القرن الماضي إلى ما قارب الصفر. وفي الوقت نفسه، تضخم الدين العالمي من 200 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي قبل 15 عاماً إلى 250 في المئة اليوم، متجاوزاً 300 في المئة في بعض الاقتصادات المتقدمة.
إن الاستنتاجات التي توصل إليها البروفيسور بيكلي قاتمة. 'فالولايات المتحدة أصبحت قوة عظمى مارقة ... عبارة 'زعيم العالم الحر' تبدو جوفاء حتى في آذان الأمريكيين'.
ما يلوح في الأفق ليس حفلاً متعدد الأقطاب للقوى العظمى التي تتقاسم العالم، بل إعادة تمثيل لبعض أسوأ جوانب القرن العشرين؛ إننا نعيش في عالم مليء بالصراعات، حيث تتحول الدول المتعثرة إلى دول عسكرية، وتنهار الدول الهشة، وتتعفن الديمقراطيات من الداخل، ويتراجع الضامن المفترض للنظام إلى التركيز على المصالح الذاتية الضيقة.
لا يأتي الذكاء الاصطناعي كمنقذ للرأسمالية، بل يُضخّم التناقضات القائمة بالفعل إلى حدٍّ هائل. إذ تواجه الكمية الهائلة من رأس المال الثابت اللازم للبنية التحتية للذكاء الاصطناعي نقصاً هائلاً في العمالة الحية اللازمة لتوليد فائض القيمة. وهذا ليس بالتناقض الذي يُمكن التغلب عليه داخل الرأسمالية.
ففي مواجهة هذا المأزق، تسعى الطبقة الحاكمة إلى مواجهة الأزمة من خلال عملياتٍ أكثر عنفاً، هجمات على ظروف العمل، وإلغاء البرامج الاجتماعية، وبرامج الترحيل الجماعي، والحروب، والإبادة الجماعية. أما الأوليغارشية، المحاصرة بتناقضاتها الداخلية، فتُهاجم بيأسٍ متزايد. إن عسكرة المدن الأمريكية، ودعم الفاشية، والترويج للحرب ضد روسيا والصين، ليست خياراتٍ سياسيةً عقلانية، بل هي تشنجات نظامٍ يحتضر.
عندما يراقب المرء أعمال هذا الرئيس وإدارته وحاشيته من الشركات الراعية والحلفاء من أصحاب المليارات، يبدو وكأنه يشاهد فيلماً من إخراج سكورسيزي. فيوم الاثنين الماضي، استضاف ترامب عشاءً رسمياً لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. وكان من بين المشاركين في تكريم الحاكم السعودي قائمة موسعة من الأثرياء الذين حضروا حفل البيت الأبيض في أيلول/ سبتمبر.
لم تمضِ سوى سبع سنوات منذ أن أمر بن سلمان باغتيال جمال خاشقجي، المقيم الدائم القانوني في الولايات المتحدة والكاتب في صحيفة واشنطن بوست. لقي المراسل، الذي أغضبت مقالاته ولي العهد، وكشفت عن الطابع القمعي الوحشي للنظام، نهايةً مروعة.
في الثاني من تشرين الأول/ أكتوبر 2018، دخل خاشقجي القنصلية السعودية في إسطنبول للحصول على وثائق ضرورية لزواجه المقبل. أرسل بن سلمان فرقة قتل سعودية مكونة من 15 عضواً إلى إسطنبول لقتل خاشقجي فور دخوله القنصلية. بعد أن أُغلقت الأبواب خلفه، أُمسك بخاشقجي وخُنق. قُطِّعت جثته. يعتقد المحققون الأتراك أن أجزاء جثة خاشقجي قد أُذيبت بحمض الهيدر وفلوريك وجرى التخلص منها، إذ ما عُثر على أي أثر لخاشقجي.
وعندما سُئل عن دور ولي العهد في مقتل خاشقجي، أجاب ترامب، على طريقة زعيم المافيا: 'الحوادث تقع!
الحوادث تقع!
إن اختيار رجل عصابات فظّ كرئيس، وهو المعادل السياسي لتوني سوبرانو، يشهد على فساد الطبقة الحاكمة الأمريكية.
ركزتُ في هذه المحاضرة، على الظروف والعمليات الموضوعية التي أوجدت أزمةً لا يمكن حلها تدريجياً إلا من خلال ثورة اشتراكية. ناهيك عن أن التدهور السريع لظروف معيشة الغالبية العظمى من الأمريكيين يُولّد شعوراً متصاعداً بضرورة وجود بديل للرأسمالية. وقد وجد هذا الشعور تعبيراً أولياً وساذجاً سياسياً في انتخاب زهران ممداني عمدةً لمدينة نيويورك، الحصن المالي للرأسمالية العالمية.
وبالطبع، لم يُضع ممداني وقتاً في نبذ شخصيته 'الاشتراكية'.
فمنذ انتخابه، أصبح ممداني في وضع 'كوربين كامل' مثير للشفقة، مؤكداً لوسائل الإعلام ووول ستريت أنه لا ينبغي أخذ أي شيء قاله خلال الحملة الانتخابية على محمل الجد، وذهب إلى حد طلب مقابلة ترامب، وأذل نفسه في تلك العملية. فبالأمس، في مؤتمر صحفي في المكتب البيضاوي، وقف ممداني خلف ترامب كصبي كشاف حسن السلوك، أومأ برأسه موافقاً بينما حين مازحه.
لا يوجد شيء مفاجئ في هذا. إن ممداني يتبع فقط المسار المتبع جيداً لكوربين المذكور أعلاه، وإغليسياس من بوديموس، وتسيبراس من سيريزا، وميلينشون من فرنسا الأبية، وساندرز وأوكاسيو كورتيز من الحزب الاشتراكي الديمقراطي، وعدد لا يحصى من الآخرين. العنصر الوحيد الذي يميز ممداني عن جميع أسلافه في سياسة الخيانة هو السرعة والوقاحة البشعة في رفضه 'يساريته'. وما كان بوسعه حتى الانتظار حتى تنصيبه رئيساً للبلدية.
أعلن ممداني في الرابع من تشرين الثاني/ نوفمبر بعد فوزه في الانتخابات:
في النهاية، إن كان بوسع أحد أن يُظهر لأمة خانها دونالد ترامب كيف تهزمه، فهي المدينة التي أنجبته. وإن كان من سبيل لإرهاب طاغية، فهو تفكيك الظروف ذاتها التي أتاحت له تراكم السلطة.
لم يستغرق ممداني سوى أيام للانتقال من ديماغوجيته ليلة الانتخابات إلى رحلته إلى البيت الأبيض. لقد أصبح ممداني بسرعة ويسر أحد 'الظروف ذاتها' التي تُمكّن ترامب من البقاء في السلطة وتنفيذ مؤامرته لإقامة ديكتاتورية.
إن تحقير ممداني لذاته ليس مجرد جبن، بل هو تعبير عن نوع من السياسة البراغماتية المبتذلة، النموذجية لليسارية الزائفة البرجوازية الصغيرة، التي تفتقر إلى أي فهم، أو حتى اهتمام بفهم، لتناقضات الرأسمالية والاتجاهات التي تدفعها إلى الأزمة والفاشية والحرب، وتدفع الطبقة العاملة إلى الثورة.
أثبتت خيانة ممداني مرة أخرى أن القضية المركزية في عصرنا هي أزمة القيادة الثورية.
إن وجود أزمة حادة لا يضمن سقوط الرأسمالية. فالاشتراكية ليست مجرد نتاج تطبيق قوانين موضوعية. كما أن انخفاض معدل الربح لا يؤدي تلقائياً إلى انهيار النظام الرأسمالي. فكلما تعمقت الأزمة، ازدادت عنفاً وقسوة جهود الطبقة الحاكمة لإنقاذ نظامها، حتى لو كلّف ذلك تدمير الحضارة.
في نهاية المطاف، يعتمد سقوط الرأسمالية على النضال الواعي للطبقة العاملة من أجل الاشتراكية. فالعمليات الاقتصادية الموضوعية تُهيئ الضرورة والظروف لإسقاط الرأسمالية. أما الثورة الاشتراكية فهي نتاج التدخل الواعي للطبقة العاملة في العملية التاريخية.
هيمنت النضالات الثورية على تاريخ القرن العشرين. وكان الدرس السياسي الأعظم لتلك النضالات هو أن النصر يتطلب قيادة حزب سياسي ماركسي، قائم على الطبقة العاملة ومدعوم من قبل الأجهزة الديمقراطية لسلطة الطبقة العاملة. كان هذا أساس انتصار ثورة أكتوبر عام 1917. وكان غياب القيادة الماركسية، بسبب خيانات الستالينية والاشتراكية الديمقراطية، هو المسؤول الرئيسي عن الهزائم التي عانت منها الطبقة العاملة في أعقاب الثورة البلشفية. بلغت تلك الخيانات ذروتها بتفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991.
وأعقب ذلك 30 عاماً من الارتباك السياسي والضياع. لكن التناقضات الرأسمالية التي لم تُحل والتي لا يمكن حلها تُطلق موجة جديدة من النضالات الثورية. وفي إطار هذه العملية، ستلعب الأحداث في الولايات المتحدة دوراً محورياً وحاسماً. ففي أعقاب الحربين العالميتين الإمبرياليتين المدمرتين في القرن العشرين، كانت الرأسمالية الأمريكية هي التي ساهمت في استقرار الرأسمالية الأوروبية والعالمية وأنقذتها. لكنها لن تتمكن من لعب هذا الدور في النضالات الثورية الجارية الآن.
أصبح عامل استقرار الرأسمالية العالمية السابق أكبر مصدر لعدم الاستقرار العالمي. ناهيك عن أن الطبقة العاملة الأكثر محافظة سياسياً، والتي يُفترض أنها محصنة ضد جاذبية الاشتراكية، أصبحت الآن متطرفة سياسياً.
إلى أين تتجه أمريكا؟ الجواب على هذا السؤال هو: نحو الاشتراكية.
تتوافر الآن الظروف لتقدم استثنائي في الوعي السياسي للطبقة العاملة. ومن المفارقات أن التقدم التكنولوجي نفسه الذي يشكل تهديداً هائلاً لظروف معيشتها سيثبت أيضاً أنه سلاح قوي في تطوير الوعي الثوري.
إن الإمكانات التربوية الهائلة للذكاء الاصطناعي، مقترنة بالمنظورات الثورية للاشتراكية العلمية، تفتح آفاقاً غير مسبوقة. إن وعي الطبقة العاملة، وفهم الظروف الموضوعية للأزمة الرأسمالية، وتوضيح الطريق إلى سلطة الطبقة العاملة، كل هذا يمكن نشره على نطاق لم تكن الأجيال السابقة لتتخيله.
وكما سبق أن أصبحت موسوعة ديدرو في القرن الثامن عشر أداةً للتنوير ساهمت في الثورة الفرنسية من خلال توفير المعرفة لجماهير من الناس الذين كانوا في جهل، فإن الذكاء الاصطناعي، إذا ما طُوّر بشكل صحيح وخُضِع لسيطرة ديمقراطية، واستخدمه الحزب الماركسي التروتسكي الثوري ووُضِع في خدمة الطبقة العاملة بدلاً من الربح الرأسمالي، يمكن أن يصبح أداةً للوعي الاشتراكي والتحرر.
أدرك موقع الاشتراكية العالمية هذه الإمكانات منذ زمن طويل. وأدركت اللجنة الدولية للأممية الرابعة أنه يجب تسخير الثورة التكنولوجية التي يمثلها الذكاء الاصطناعي لأغراض حركة الطبقة العاملة. ويسعدني أن أعلن أننا سنصدر قريباً 'الاشتراكية والذكاء الاصطناعي'، وهو تطبيق ثوري للذكاء الاصطناعي في تطوير الوعي الاشتراكي والقدرة التنظيمية للطبقة العاملة الدولية.
هذا ليس مشروعاً تقنياً بسيطاً. إنه تطبيقٌ لأحدث قوى الإنتاج في تحويل الوعي، لتوفير الموارد النظرية والتحليل التاريخي والوضوح البرنامجي اللازم، فوراً وعالمياً، للطبقة العاملة لفهم رسالتها التاريخية والاستيلاء على السلطة.
العالم الذي نعيش فيه أشبه ببركانٍ خامد تبني الحضارة على منحدراته آثارها، وتؤسس مؤسساتها، وتنظم حياتها اليومية. يبدو البركان خامداً لفترات من الزمن. لكن تحت السطح، تتراكم ضغوط هائلة. ترتفع الصهارة. تشتد الهزات. وأخيراً، يأتي الثوران بقوة كارثية، مغيراً المشهد بالكامل.
لا يجسد مجاز البركان الطاقة التدميرية فحسب، بل أيضاً الطاقة الإبداعية لتلك العملية. يدمر الثوران البركاني التضاريس القديمة، ولكنه يخلق أرضاً جديدة.
إن اندلاع الصراع الطبقي في الولايات المتحدة سيُدمر هياكل الرأسمالية المتعفنة، ولكنه سيفتح أيضاً آفاقاً لعالم جديد. ستبرز من أعماق الظلم الاجتماعي، قوة أعظم من أي جيش أو شركة: القوة الجماعية لطبقة تُنتج كل الثروة لكنها لا تملك شيئاً. وعندما تعمل هذه القوة بوعي، مسترشدةً بالاشتراكية العلمية وتحليل الواقع الموضوعي، فإنها ستُزيل حواجز القومية والعرقية، وتُوحد البشرية في نضال مشترك من أجل التحرر.
