ألقى كريستوف فاندراير، السكرتير الوطني لحزب المساواة الاشتراكية (ألمانيا)، المحاضرة التالية في المدرسة الصيفية الدولية لحزب المساواة الاشتراكية (الولايات المتحدة)، التي عُقدت في الفترة من 2 إلى 9 آب/أغسطس 2025. وهي الجزء الأول من محاضرة من جزئين حول أصول التروتسكية.
كما ينشر موقع الاشتراكية العالمية وثيقتين مرجعيتين رئيسيتين كتبهما ليون تروتسكي لمرافقة هذه المحاضرة، وهما 'بيان الأممية الشيوعية لعمال العالم'، الذي ألقاه في المؤتمر الأول للأممية الشيوعية، والفصل العاشر من كتاب تروتسكي 'الثورة الدائمة'. نشجع قراءنا على دراسة هذه النصوص بالتزامن مع هذه المحاضرة.
وسينشر موقع الاشتراكية العالمية جميع محاضرات المدرسة خلال الأسابيع المقبلة. نُشرت المقدمة التي كتبها رئيس الحزب الاشتراكي العمالي الوطني ديفيد نورث للمدرسة بعنوان 'مكانة الأمن والأممية الرابعة في تاريخ الحركة التروتسكية' في 13آب/ أغسطس.
ما كان تحقيق 'الأمن والأممية الرابعة' مجرد قصة بوليسية حول اغتيال ليون تروتسكي. فمن خلال فتح تحقيق في اغتيال تروتسكي وكشف دور الستالينيين والإمبرياليين داخل الحركة وخارجها، ارتبطت اللجنة الدولية ارتباطاً أعمق بتاريخ الحركة الثورية.
وعلى عكس البابلويين أو جماعة روبرتسون، أخذت اللجنة تاريخ الحركة والتوضيحات السياسية فيه على محمل الجد، لأنها أدركت أن مفتاح حل أزمة القيادة الثورية، وبالتالي أزمة الإنسانية، يكمن في استمرارية الأممية الرابعة، أي استمرارية البلشفية.
إن المنظور والمبادئ التاريخية التي تجسّدها اللجنة الدولية للأممية الرابعة هي الأساس الوحيد الذي يُمكن من خلاله تمكين الطبقة العاملة من الإطاحة بالرأسماليين وبناء مجتمع اشتراكي. وهذا ما يُفسر العداء المميت الذي يكنّه الستالينيون والإمبرياليون لحركتنا.
لذا، من الضروري أن نبدأ دورةً حول الأمن والأممية الرابعة بعرضٍ المنظور الذي دُعم وطُوّر في مسارها: منظور التروتسكية، أي الاشتراكية الدولية.
في 'منظور العام الجديد 2017'، حدد الرفيقان جوزيف كيشور وديفيد نورث الأسس السياسية والنظرية الثلاثة التالية التي استندت إليها ثورة أكتوبر:
- الدفاع عن المادية الجدلية والتاريخية وتطويرها، في مواجهة المثالية الفلسفية والنزعة التحريفية المناهضة للماركسية، كأساسٍ نظريٍ لتعليم الطبقة العاملة وممارستها الثورية.
- النضال الدؤوب ضد مختلف أشكال الانتهازية والوسطية التي أعاقت أو قوّضت النضال من أجل ترسيخ الاستقلال السياسي للطبقة العاملة.
- لقد تم، على مدى سنوات عديدة، بلورة المنظور الاستراتيجي الذي وجّه الحزب البلشفي نحو الصراع على السلطة عام 1917. وفي هذه العملية الأخيرة، مثّل تبني لينين لنظرية الثورة الدائمة، التي طورها تروتسكي خلال العقد السابق، التقدم الحاسم الذي وجّه استراتيجية البلاشفة في الأشهر التي سبقت الإطاحة بالحكومة المؤقتة.[1] أما بالنسبة للنقطة الثانية، فقد خاض لينين نضالاً دؤوباً من أجل استقلالية الطبقة العاملة. و أصرّ لينين، في كتاباته ضد الشعبويين في العقد الأخير من القرن التاسع عشر، على أن الطبقة العاملة يجب أن تتخذ موقفها الطبقي المستقل ضد هذه القوى البرجوازية والبرجوازية الصغيرة. ففي كتابه 'ما العمل'، جادل ضد الاقتصاديين بأنه لا يمكن تحيق استقلال الطبقة العاملة إلا من خلال نضال عملي وسياسي ونظري مستمر ضد الوعي البرجوازي والعفوي، وعلى هذا الأساس انشق عن المناشفة في عام 1903.
أدرك لينين أن الفهم المادي للتاريخ والمجتمع، في هذا النضال من أجل خط مستقل وضد كل انتهازية، أمر لا غنى عنه. ولا يمكن للحزب الثوري التدخل فيه ورفع وعي الطبقة العاملة إلا إذا فهم الصراع الطبقي فهمًا علمياً. وكما لخص لينين ببراعة في كتابه المهم 'المادية والنقد التجريبي':
إن أسمى مهمة للبشرية هي فهم هذا المنطق الموضوعي للتطور الاقتصادي (تطور الحياة الاجتماعية) في سماته العامة والأساسية، بحيث يتسنى تكييف وعي الفرد الاجتماعي ووعي الطبقات المتقدمة في جميع البلدان الرأسمالية معه بأسلوب محدد وواضح ونقدي قدر الإمكان.[2]
كان هذا هو أساس عمل لينين وتروتسكي وغيرهما من الماركسيين العظماء. لقد فهموا الماركسية ليس كنموذج يُفرض على التطور التاريخي، بل كأداة لفهم التطور الموضوعي بدقة من أجل تطوير الخط المستقل للطبقة العاملة. من هذا المنطلق، تناولوا التغيرات الشاملة التي شهدتها الرأسمالية منذ نهاية القرن التاسع عشر. وفي روسيا، كانت هذه الأسئلة بالغة الأهمية.
ثلاثة مفاهيم للثورة الروسية
'المبدأ الأساسي للماركسية هو أن الثورة الاجتماعية - أي عملية استبدال طبقة حاكمة بأخرى - لا تحدث إلا عندما يصبح تطور القوى الإنتاجية غير ممكن في إطار علاقات الإنتاج القائمة'، كما ذكر الرفيق كيشور في محاضرته عن الثورة الروسية.[3]
ولكن عندما وصلت الماركسية إلى روسيا، كانت هذه العمليات لا تزال في بداياتها. كانت البلاد زراعية في معظمها، وبلغ عدد سكانها من الفلاحين 100 مليون نسمة. ورغم إلغاء نظام القنانة عام 1861، ظلت البُنى الريفية إقطاعية في جوهرها، سيطر عليها حوالي 60 ألفاً من ملاك الأراضي الأثرياء للغاية، ومعظمهم من الأرستقراطيين. في الوقت نفسه، كانت الصناعة في المراكز الحضرية حديثة للغاية. أنتج ما بين ثلاثة وخمسة ملايين عامل ما قارب من نصف الدخل القومي، غالباً في مصانع كبيرة ضمت أكثر من ألف موظف. في ظل هذه الظروف، دار نقاش حاد داخل الحركة الاشتراكية الروسية حول طابع الثورة في روسيا، التي كانت ذات أهمية بالغة للماركسية العالمية، وشكلت أساس ثورة أكتوبر. في جوهرها، كانت هناك ثلاثة مفاهيم.
أدرك جورجي بليخانوف، أبو الماركسية الروسية، ضرورة بناء حزب مستقل للطبقة العاملة ملتزم بالاشتراكية العالمية. و اتضح منذ عام 1848 في ألمانيا، أن البرجوازية، خوفاً من انتفاضة بروليتارية، تفضل التحالف مع القوى الإقطاعية على دفع الثورة الديمقراطية. ولذلك، أعلن بليخانوف في المؤتمر التأسيسي للأممية الثانية عام 1889: 'ستنتصر الحركة الثورية في روسيا كحركة عمالية، وإلا فلن تنتصر أبداً'.
لكن بليخانوف نقل رسمياً تطور الرأسمالية في أوروبا الغربية إلى الوضع في روسيا، وبالتالي فهم الثورة على أنها ثورة برجوازية بحتة. كان على العمال دفعها قدماً، ولكن عليهم في النهاية تسليم السلطة للبرجوازية حتى تتمكن الرأسمالية من التطور بشكل كامل في روسيا. بصفته قائداً منشفياً، روّج في النهاية علناً لتحالف بين البروليتاريا والبرجوازية. ومع ثورة 1905، اتضحت حدود هذا المنظور. وكما أوضح ديفيد نورث:
أثارت أحداث عام 1905، أي اندلاع الثورة الروسية الأولى، تساؤلات جدية حول جدوى نموذج بليخانوف النظري. كان أهم جانب في الثورة الروسية هو الدور السياسي المهيمن الذي لعبته البروليتاريا ففي النضال ضد القيصرية. في ظل الإضرابات العامة والتمردات، بدت مناورات القادة السياسيين للبرجوازية الروسية تافهة ومخادعة. ما كان هناك روبسبير أو دانتون بين البرجوازية. وماكان حزب الكاديت (الديمقراطيون الدستوريون) شبيهاً باليعاقبة إطلاقًا.[4] في خضم هذه الأحداث الثورية عام 1905، اتخذ لينين موقفاً معارضاً لبليخانوف. في حل مهام الثورة البرجوازية، ما كان بوسع البروليتاريا الاعتماد على البرجوازية، التي تفاعلت مع كل حركة مستقلة للطبقة العاملة بالاقتراب من ملاك الأراضي و من النظام القيصري.
حاجج لينين بأن على الطبقة العاملة إنجاز مهام الثورة البرجوازية بشكل مستقل عن البرجوازية وضدها. وفي هذا السياق، اعتمد على التحالف مع الفلاحين. فبدلاً من البرلمانية البرجوازية، طالب بـ'ديكتاتورية البروليتاريا والفلاحين الديمقراطية '؛ وبدلاً من التعاون مع البرجوازية، دعا إلى تعبئة العمال الريفيين. لكن حتى لينين رأى أن مهام هذه الثورة، وفي مقدمتها حل مسألة الأرض، مهام برجوازية. وكما أوضح لينين:
لكنها ستكون، بطبيعة الحال، ديكتاتورية ديمقراطية، وليست اشتراكية. ولن تتمكن (دون سلسلة من المراحل الوسيطة للتطور الثوري) من تقويض أسس الرأسمالية. في أفضل الأحوال، قد يؤدي ذلك إلى إعادة توزيع جذرية للملكية العقارية لصالح الفلاحين، وإقامة ديمقراطية ثابتة وكاملة، بما في ذلك تشكيل جمهورية، والقضاء على جميع السمات القمعية للعبودية الآسيوية، ليس فقط في الحياة الريفية ولكن أيضاً في الحياة الصناعية، ووضع الأساس لتحسين شامل في ظروف العمال ورفع مستوى معيشتهم، وأخيراً وليس آخراً، حمل الحريق الثوري إلى أوروبا.[5]
لا شك أن مفهوم لينين مثّل خطوةً مهمةً إلى الأمام، إذ أعاد صياغة العلاقة الطبقية في الثورة وفي شكل الحكم الجديد، ووضع الثورة في روسيا في سياق الثورة الأوروبية. إلا أن صيغته للديكتاتورية الديمقراطية تركت مسألة الطابع الطبقي للحكومة الجديدة دون إجابة، وظلت شكليةً إلى حد ما فيما يتعلق بسياساتها. أشار تروتسكي منذ عام 1905 إلى أن لينين أراد حلّ التناقض بين المصالح الطبقية للعمال والظروف الموضوعية لتخلف روسيا من خلال ضبط النفس من جانب العمال. في حين أن المناشفة، انطلاقاً من الفكرة المجردة القائلة بأن 'ثورتنا هي ثورة برجوازية'، يصلون إلى فكرة مفادها أن البروليتاريا يجب أن تكيف جميع تكتيكاتها مع سلوك البرجوازية الليبرالية من أجل ضمان نقل السلطة الحكومية إلى البرجوازية، لكن البلاشفة انطلقوا من فكرة مجردة بنفس القدر 'الديكتاتورية الديمقراطية، وليس الديكتاتورية الاشتراكية' ووصلوا إلى فكرة أن البروليتاريا التي تمتلك سلطة الدولة تفرض على نفسها قيداً ديمقراطياً برجوازياً.
صحيح أن الاختلاف بينهما في تلك المسألة كبير جداً: فبينما أصبحت الجوانب المناهضة للثورة في المنشفية جلية تماماً، من المرجح أن تُصبح الجوانب المناهضة للثورة في البلشفية تهديداً خطيراً فقط في حالة النصر.[6]
بهذا، حدّد تروتسكي السمات الأساسية لنظرية الثورة الدائمة، التي شرحها بشكل منهجي بعد عام في كتاب 'النتائج والآفاق'. أدرك كل من لينين وتروتسكي أن الطبقة العاملة يجب أن تقود الفلاحين، العاجزين عن ممارسة سياسة مستقلة. لكنهما اختلفا حول الطبيعة الطبقية للنظام الثوري الذي سيحل محل الاستبداد. أوضح تروتسكي أن الثورة التي تقودها الطبقة العاملة دائمة، بمعنى أنه فور استيلاء العمال على السلطة، لن يقتصروا على التدابير الديمقراطية البرجوازية، بل سيضطرون إلى اتخاذ تدابير اشتراكية.
ومع ذلك، برز سؤال حول كيفية تحقيق ذلك في روسيا المتخلفة، حيث ما كانت الرأسمالية قد تطورت بعد، وكانت الغالبية العظمى من السكان من الفلاحين. وهنا، وبناءً على دراسة مفصلة لتطور الاقتصاد العالمي والتطور المتناقض في روسيا، طوّر تروتسكي العنصر المركزي لنظرية الثورة الدائمة، وهي نظرية بالغة الأهمية ليس فقط للدول المتخلفة، ولكن أيضاً لاستراتيجية الثورة الاشتراكية العالمية. فهم كلٌّ من تروتسكي ولينين الثورة في روسيا ليس كحدث وطني معزول، بل كجزء من الثورة العالمية. لكن تروتسكي استخلص من هذا الاستنتاجات الأكثر بُعداً. ففي عام 1905، كتب:
بفرضها نمطها الاقتصادي الخاص وعلاقاتها الخاصة على جميع البلدان، حوّلت الرأسمالية العالم بأسره إلى كيان اقتصادي وسياسي واحد... منذ البداية أضفت هذه الحقيقة على الأحداث الجارية طابعاً دولياً وفتحت آفاقاً عظيمة. إن التحرر السياسي الذي قادته الطبقة العاملة الروسية رفعها إلى آفاق غير مسبوقة تاريخياً، وزودها بوسائل وموارد هائلة، وجعلها المبادرة إلى القضاء على الرأسمالية في جميع أنحاء العالم، وهو ما أعد له التاريخ كل الظروف الموضوعية المسبقة.[7]
ما كانت نظرية تروتسكي للثورة الدائمة مجرد يوتوبيا، بل استندت إلى فهمٍ للتطور الرأسمالي العالمي. في عام 1931، لخّص تروتسكي هذه الرؤية ببراعة في كتابه 'الثورة الدائمة':
من الأسباب الأساسية لأزمة المجتمع البرجوازي أن القوى الإنتاجية التي أوجدها ما عادت قادرة على التوفيق بينه وبين إطار الدولة الوطنية. ترتب على ذلك، من جهة، الحروب الإمبريالية، ومن جهة أخرى، يوتوبيا الولايات المتحدة الأوروبية البرجوازية. تبدأ الثورة الاشتراكية على الساحة الوطنية، وتمتد على الساحة الدولية، وتكتمل على الساحة العالمية. وهكذا، تصبح الثورة الاشتراكية ثورة دائمة بمفهومها الأحدث والأوسع؛ ولا تكتمل إلا بالنصر النهائي للمجتمع الجديد على كوكبنا بأكمله.[8]
في كتابه 'دفاعاً عن ليون تروتسكي'، لخص ديفيد نورث أهمية هذا التحليل لاستراتيجية الثورة الاشتراكية العالمية:
انطلاقاً من تحليل التطور التاريخي للرأسمالية العالمية و تبعية روسيا الموضوعية للبيئة الاقتصادية والسياسية الدولية، تنبأ تروتسكي بالتطور الاشتراكي للثورة الروسية. ستُجبر الطبقة العاملة الروسية على تولي السلطة وتبني إجراءات ذات طابع اشتراكي. ومع ذلك، ففي مسيرتها نحو الاشتراكية، ستواجه الطبقة العاملة في روسيا حتماً قيود البيئة الوطنية. كيف تجد مخرجاً من مأزقها؟ بربط مصيرها بالثورة الأوروبية والعالمية التي كان نضالها، في نهاية المطاف، أحد تجلياتها.
أتاحت نظرية تروتسكي للثورة الدائمة تصوراً واقعياً للثورة العالمية. لقد انتهى عصر الثورات الوطنية، أو بتعبير أدق، لا يمكن فهم الثورات الوطنية إلا في إطار الثورة الاشتراكية الدولية.[9]
الثورة الدائمة في روسيا: من أطروحات أبريل إلى ثورة أكتوبر
تأكّدت نظرية الثورة الدائمة لأول مرة في الحرب العالمية ، وانهيار نظام الدولة القومية الرأسمالية، ثم ترسخت في جميع جوانبها في الثورة الروسية.
انطلقت ثورة شباط /فبراير أساساً من الطبقة العاملة، وقادها على وجه الخصوص العمال الذين تربوا على يد البلاشفة. قادوا الانتفاضة إلى النصر، لكن عجزوا، دون حزب مركزي، عن وضع السلطة فوراً في أيدي الطليعة البروليتارية. أدى هذا إلى ازدواجية السلطة بين الحكومة المؤقتة، بقيادة البرجوازية الليبرالية، ومجلس نواب العمال والجنود.
وكما تنبأ تروتسكي، بذلت البرجوازية قصارى جهدها لقمع الثورة والدفاع عن القيصر. بعد تنازل القيصر، حاولت الحكومة المؤقتة نزع سلاح العمال، وحل المجلس، ومواصلة الحرب. أيد المناشفة و الاشتراكيون الثوريون ، الذين كانت لهم في البداية الأغلبية في السوفييت، الحكومة المؤقتة، و لا سيما استمرار الحرب بما تماشى مع اعتقادهم بأن الطبقة العاملة يجب أن تدعم البرجوازية، حتى ولو كانت هذه الأخيرة معادية للثورة بشكل علني.
نشأ،في ظل تلك الظروف، جدل حاد داخل الحزب البلشفي حول العلاقة بالحكومة المؤقتة واستمرار الحرب. حاجج كامينيف وستالين، اللذان ترأسا معاً هيئة تحرير صحيفة 'برافدا'، بضرورة دعم البلاشفة للحكومة المؤقتة دعماً حاسماً من أجل تهيئة أفضل الظروف لـ'دكتاتورية العمال والفلاحين الديمقراطية'. بل دعا علناً إلى دعم استمرار الحرب.
من ناحية أخرى، كان لينين اقترب بالفعل من مواقف تروتسكي خلال الحرب في تحليله الأساسي للإمبريالية. ففي كتابه 'الإمبريالية، أعلى مراحل الرأسمالية'، شرح كيف تطورت الرأسمالية إلى 'نظام عالمي من القمع الاستعماري والخنق المالي للغالبية العظمى من سكان العالم على يد حفنة من الدول 'المتقدمة'. و وضع شعاره 'تحويل الحرب إلى حرب أهلية' و الثورة الاشتراكية في جميع الدول الأوروبية على جدول الأعمال. حتى قبل عودته إلى روسيا، وصف لينين أي دعم للحكومة المؤقتة في 'رسائله من بعيد' بأنه خيانة لقضية البروليتاريا، ورفض استمرار الحرب الإمبريالية. وفور وصوله إلى روسيا، ناقش أطروحات نيسان/أبريل داخل الحزب، والتي على أساسها ما اًتهم ظلماً بـ'التروتسكية'.
أكد لينين في أطروحاته على ضرورة ثبات موقف البلاشفة، وأن الحرب على الجانب الروسي ستظل حرب نهب إمبريالية. ولأن الرأي السائد بين الجماهير كان أن الحرب دفاع عن الثورة، كان من الضروري للبلاشفة كشف الخلفية الحقيقية للحرب. كان من الضروري إثبات 'استحالة إنهاء الحرب بسلام ديمقراطي حقيقي، سلام لا يُفرض بالعنف، دون الإطاحة بالرأسمالية'. كانت تلك نقطة مهمة، لأن لينين انطلق من الظروف الموضوعية، لا من الوعي المباشر للطبقة العاملة، كما سبق أن أوضح في كتابه 'ما العمل؟'. وأوضح أن منطق الصراع الطبقي سيكشف عن الطابع المضاد للثورة لكرينسكي والمناشفة. وفي المرحلة الحاسمة، سيمكن تقارب برنامج الحزب والظروف الموضوعية البلاشفة من كسب جماهير الطبقة العاملة نحو منظور الثورة الاشتراكية.
في النقطة الثانية من أطروحاته، أيّد لينين بوضوح فكرة الثورة الدائمة بدعوته البروليتاريا إلى تولي السلطة. وقال إنه لا ينبغي للبلاشفة أن يعقدوا أي آمال على الحكومة المؤقتة ، بل عليهم معارضة النظام البرلماني بحكم المجالس. ويجب إلغاء الشرطة والجيش والخدمة المدنية واستبدالها.
بالإضافة إلى تأميم الأراضي، طالب لينين أيضاً بسيطرة مباشرة على البنوك من قبل السوفييت، وسيطرة العمال على الإنتاج والتوزيع. ويجب إعادة تسمية حزب العمل الاشتراكي الديمقراطي في روسيا إلى الحزب الشيوعي، والشروع في تأسيس أممية شيوعية، موجهة ضد كل من الاشتراكيين الشوفينيين والوسطيين.
لخص ديفيد نورث ببراعة تطور لينين نحو موقف تروتسكي:
ما كان برنامج لينين السياسي، الذي أشار إلى توافق استراتيجيته مع نظرية تروتسكي للثورة الدائمة قائماً في المقام الأول على تقييم الظروف والفرص الوطنية المتاحة في روسيا. ما كان السؤال الجوهري الذي واجه الطبقة العاملة هو ما إذا كانت روسيا، كدولة وطنية، قد حققت مستوى كافياً من التطور الرأسمالي سمح بالانتقال إلى الاشتراكية. بل واجهت الطبقة العاملة الروسية وضعاً تاريخياً ارتبط فيه مصيرها ارتباطاً وثيقاً بنضال الطبقة العاملة الأوروبية ضد الحرب الإمبريالية والنظام الرأسمالي الذي انبثقت منه.[10] كما تجلى توجه لينين الجديد بوضوح في مسودة برنامجه للحزب البروليتاري، التي كتبها أيضاً في نيسان/ أبريل 1917 إذ نص البرنامج على:
ليست الحرب نتاجاً للإرادة الشريرة للرأسماليين الجشعين، مع أنها تُخاض بلا شك لمصلحتهم فقط، وهم وحدهم من يُثرون منها. إنها نتاج نصف قرن من تطور الرأسمالية العالمية ومليارات خيوطها وروابطها. يستحيل الخروج من الحرب الإمبريالية وتحقيق سلام ديمقراطي غير قسري دون الإطاحة بسلطة رأس المال ونقل سلطة الدولة إلى طبقة أخرى، هي البروليتاريا.
كانت الثورة الروسية في فبراير/شباط ومارس/آذار 1917 بداية تحول الحرب الإمبريالية إلى حرب أهلية. خطت هذه الثورة الخطوة الأولى نحو إنهاء الحرب؛ لكنها تتطلب خطوة ثانية، وهي نقل سلطة الدولة إلى البروليتاريا، لجعل نهاية الحرب حتمية. ستكون هذه بداية 'اختراق' على نطاق عالمي، اختراق في جبهة المصالح الرأسمالية؛ وفقط باختراق هذه الجبهة، تستطيع البروليتاريا إنقاذ البشرية من ويلات الحرب ومنحها نعمة السلام.[11]
وفي حين انضم لينين إلى نظرية الثورة الدائمة، اكتسب تروتسكي فهماً أعمق لنضال لينين الدؤوب من أجل قطيعة تامة مع الانتهازيين الذين تحولوا إلى وطنيين اشتراكيين ومدافعين عن الوطن الأم خلال الحرب والثورة في روسيا. وبما أن تروتسكي استبعد الاتحاد مع المناشفة، فقد أعلن لينين في أكتوبر 1917: 'ما كان هناك بلشفي أفضل من تروتسكي'.
كان لينين قد وضع بالفعل النضال ضد الانتهازية في الحركة العمالية في صميم برنامجه في كتابه 'ما العمل؟'، وأكمل القطيعة مع المناشفة عام 1912. مع اندلاع الحرب، ضغط لينين دولياً من أجل قطيعة تامة مع المدافعين عن الوطن الأم، ولا سيما مع الوسطيين الذين أرادوا منع هذه القطيعة.
في روسيا، تأكد ذلك من خلال الدور المضاد للثورة الذي لعبه المناشفة. فبدلاً من محاربة البرجوازية والمئة السود، قاتلوا البلاشفة ودعموا ملاحقتهم بعد احتجاجات تموز / يوليو. سُجن تروتسكي، واضطر لينين للاختباء. حتى أن كيرينسكي، المدعوم من المناشفة، تعاون مع الجنرال كورنيلوف لإضعاف السوفييت وتدمير الثورة. بلغت مسألة سلطة الدولة ذروتها، وفقد المناشفة والاشتراكيون الثوريون الذين دعموا كيرينسكي مصداقيتهم بين الجماهير.
خلال هذه الفترة، كرّس لينين نفسه لدراسته الأساسية 'الدولة والثورة'، حيث عارض بشدة موقف الإصلاحيين القائل بإمكانية استيلاء الطبقة العاملة على جهاز الدولة البرجوازي. واستناداً إلى ماركس وإنجلز، بيّن لينين الطابع الطبقي للدولة، وأثبت أن على الطبقة العاملة تحطيم الدولة البرجوازية واستبدالها بدولة خاصة بها. وصف تروتسكي العمل، محقاً، بأنه 'مقدمة علمية لأعظم ثورة في التاريخ'؛ لقد كان تمهيداً للاستيلاء على السلطة. بعد أن هزم العمال، بقيادة البلاشفة، انقلاب كورنيلوف، كتب لينين، بينما كان لا يزال يعمل على 'الدولة والثورة':
لا يمكن التهرب من مسألة سلطة الدولة أو تجاهلها، لأنها المسألة الأساسية التي تُحدد مسار أي ثورة. ...
ومع ذلك، غالباً ما فُهم شعار ' كل السلطة للسوفييتات'، إن ما كان في أغلب الأحيان، خطأً على أنه عنى 'مجلس وزراء أحزاب الأغلبية السوفييتية...' (ليس كذلك). عنت 'كل السلطة للسوفييتات' إعادة تشكيل جذرية لجهاز الدولة القديم بأكمله، ذلك الجهاز البيروقراطي الذي أعاق كل ما هو ديمقراطي. يعني إزالة هذا الجهاز واستبداله بجهاز شعبي جديد، أي جهاز سوفييتي ديمقراطي حقيقي، أي الأغلبية المنظمة والمسلحة من الشعب ،من العمال والجنود والفلاحين. يعني منح أغلبية الشعب المبادرة والاستقلالية ليس فقط في انتخاب النواب، بل و في إدارة الدولة، وفي إجراء الإصلاحات ومختلف التغييرات الأخرى.[12]
لا شك أن توجه لينين الرافض لأي حلول وسط أو تسويات مع البرجوازية أو وكلائها في صفوف الطبقة العاملة أرسى أسس ثورة أكتوبر. وما تمكن لينين وتروتسكي من اتخاذ هذا الموقف إلا بفضل توجههما الاستراتيجي نحو الثورة الاشتراكية العالمية، إذ إن الطبقة العاملة العالمية وحدها هي التي وفرت الأساس الموضوعي لهذه الانتفاضة الثورية الهائلة. و تجلى هذا بوضوح قبيل ثورة أكتوبر، عندما رفض زينوفييف وكامينيف استيلاء البلاشفة على السلطة. وركز المشككون على الظروف الوطنية في روسيا، التي اعتبروا الثورة في ظلها مستحيلة. وبدلاً من ذلك، طالبوا بانعقاد الجمعية التأسيسية وإجبار البرجوازية على إنجاز المهام الديمقراطية. وكرروا، في مرحلة تطورية أعلى ، نزاعات نيسان/أبريل.
فهم لينين وتروتسكي التطورات الروسية كجزء من الصراع الطبقي الدولي، ولذلك توصلا إلى استنتاجات مختلفة تماماً. اندلعت الصراعات حول التوجه بحدة في ظل سيطرة البلاشفة على أغلبية السوفييتات، وإدراكهم لامتلاكهم قطاعات كبيرة من الجيش خلفهم. في هذه الحالة، كانت الصراعات النظرية والسياسية التي خاضها لينين وتروتسكي على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية هي ما يُهم .لخص ديفيد نورث أهمية الحزب في أسبابه لدراسة الثورة الروسية:
قدّم البلاشفة للطبقة العاملة مثالاً على ماهية الحزب الثوري الأصيل، والدور الذي لا غنى عنه لهذا الحزب في ضمان انتصار الثورة الاشتراكية. إن دراسة متأنية للعملية الثورية عام 1917 لا تدع مجالاً للشك في أن وجود الحزب البلشفي، بقيادة لينين وتروتسكي، كان حاسماً في ضمان انتصار الثورة الاشتراكية. لقد اكتسبت حركة الطبقة العاملة الروسية، مدعومةً بانتفاضة الفلاحين الثورية، أبعاداً هائلة عام 1917. لكن أي قراءة واقعية لأحداث ذلك العام لا تسمح باستنتاج أن الطبقة العاملة كانت ستصل إلى السلطة لولا القيادة التي وفرها الحزب البلشفي. واستلهم تروتسكي الدرس الجوهري من هذه التجربة، فأصرّ لاحقاً على أن: 'دور ومسؤولية قيادة (الطبقة العاملة) في العصر الثوري هائلان'. ويظل هذا الاستنتاج صحيحاً في الوضع التاريخي الراهن كما كان عام 1917.[13]
في كتابه 'دروس أكتوبر'، يلخص تروتسكي هذه الفكرة قائلاً:
أثبتت الأحداث أنه بدون حزب قادر على قيادة الثورة البروليتارية، تصبح الثورة نفسها مستحيلة. لا يمكن للبروليتاريا الاستيلاء على السلطة بانتفاضة عفوية. ... تستطيع طبقة مالكة الاستيلاء على السلطة المنتزعة من طبقة مالكة أخرى لأنها قادرة على الاعتماد على ثرواتها، ومستواها الثقافي، وروابطها التي لا تُحصى مع جهاز الدولة القديم. ولكن لا شيء آخر يمكن أن يخدم البروليتاريا كبديل لحزبها.[14]
روسيا السوفيتية واستراتيجية الثورة الاشتراكية العالمية: المؤتمرات الأربعة الأولى للأممية الشيوعية، 1919-1922
كانت ثورة أكتوبر حدثاً دولياً بكل ما للكلمة من معنى. فمن جهة، تدخلت أكثر من اثنتي عشرة قوة أجنبية في روسيا لدعم الجيش الأبيض والإطاحة بالطبقة العاملة. ومن جهة أخرى، شهدت السنوات التي تلت ثورة أكتوبر انتفاضات وثورات عديدة حول العالم. وكانت أبرزها ثورة تشرين الثاني /نوفمبر في ألمانيا. وهنا، تأكدت أهمية الحزب الثوري بشكل سلبي. فقد تردد الجناح اليساري للاشتراكية الديمقراطية في الانفصال عن الحزب الاشتراكي الديمقراطي ، ثم عن الحزب الديمقراطي الاجتماعي المستقل الوسطي، وبناء حزب ثوري مستقل. وكانت هناك أسباب تاريخية وسياسية معقدة لذلك، لكن النتيجة كانت أن الحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي فقد مصداقيته، بدعم من الحزب المستقل الوسطي، تمكن من إضعاف مجالس العمال وإخماد ثورة تشرين الثاني/نوفمبر.
عندما انفصل الجناح اليساري للحزب الاشتراكي الديمقراطي أخيرًا وأسس الحزب الشيوعي الألماني في الأول من كانون الثاني يناير عام 1919، ما مضِى سوى أسبوعين حتى قُتل زعيماه كارل ليبكنخت وروزا لوكسمبورغ بهمجية على يد جنود الفرايكوربس اليمينيين خلال انتفاضة سبارتاكوس بأمر من حكومة الحزب الاشتراكي الديمقراطي. من جانبها، استخلصت البرجوازية درساً من ثورة أكتوبر، ونشرت ملصقات في جميع أنحاء برلين كُتب عليها: 'Schlagt ihre Führer tot!' 'اقتلوا قادتهم!'. هذه الحادثة ليست بالأمر الهيّن في نقاش الأمن والأممية الرابعة.
بعد سبعة أسابيع من اغتيال لوكسمبورغ وليبكنخت، انعقد المؤتمر التأسيسي للكومنترن. استخلص لينين وتروتسكي من ثورة أكتوبر والتجارب في ألمانيا أنه يجب بناء أحزاب شيوعية على غرار البلاشفة في كل بلد من بلدان العالم لتمكين انتشار الثورة وجعل الثورة الاشتراكية العالمية حقيقة واقعة. ونص البيان التأسيسي للمؤتمر، الذي كتبه تروتسكي، على ما يلي:
مهمتنا هي تعميم التجربة الثورية للطبقة العاملة، وتطهير الحركة من خليط الانتهازية والاشتراكية الوطنية المُفسد، وتوحيد جهود جميع الأحزاب الثورية الحقيقية للبروليتاريا العالمية، وبالتالي تسهيل وتسريع انتصار الثورة الشيوعية في جميع أنحاء العالم. ...
إذا كانت الأممية الأولى قد أنبأت بمسار التطور المستقبلي وحددت مساراته؛ وإذا كانت الأممية الثانية قد جمعت ونظمت ملايين العمال؛ فإن الأممية الثالثة هي أممية العمل الجماهيري المفتوح، أممية الإنجاز الثوري، أممية الفعل.[15]
ما كانت تلك مجرد كلمات. فقد تبنى الكومنترن مبادئ تنظيمية حاسمة للغاية، هدفت إلى استبعاد أي فتور تجاه الانتهازيين وأي نزعة وسطية، وعُبِّر عنها في الشروط الحادية والعشرين لعضوية الكومنترن. و نص بيان المؤتمر الثاني، الذي اعتُمدت فيه الشروط، بعبارات لا لبس فيها على ما يلي:
الأممية الشيوعية هي حزب التثقيف الثوري للبروليتاريا العالمية. وهي ترفض جميع المنظمات والجماعات التي تُخدِّر البروليتاريا وتُثبِّط معنوياتها وتُضعِفها، علناً أو سراً، وتحثها على الركوع أمام الأوثان التي تُشكِّل واجهةً لدكتاتورية البرجوازية أي الشرعية، والديمقراطية، والدفاع الوطني، إلخ.
كما لا يمكن للأممية الشيوعية أن تقبل في صفوفها تلك المنظمات التي، بعد أن رسَّخت دكتاتورية البروليتاريا في برنامجها، تُواصل انتهاج سياسة تعتمد بوضوح على حل سلمي للأزمة التاريخية. فمجرد الاعتراف بالنظام السوفييتي لا يُحل شيئاً. لا يمتلك التنظيم السوفييتي أي قدرات خارقة. القوة الثورية تكمن داخل البروليتاريا نفسها. من الضروري أن تنهض البروليتاريا للاستيلاء على السلطة، حينها فقط، سيتمكن النظام السوفييتي من تحقيق أهدافه.
كشفت المنظمة عن صفاتها كأداة لا غنى عنها في أيدي البروليتاريا.[16]
كان الموقف المتشدد تجاه الانتهازيين متفاعلاً بشكل مباشر مع النزعة الأممية غير المشروطة للكومنترن. و أشار بيانه التأسيسي إلى الصلة بين الانتهازية والقومية، وقارنها بمفهوم الحزب الأممي الحقيقي الذي لا يسمح إلا بالخط المستقل للطبقة العاملة. نص البيان على:
في عام 1889، اجتمعت هذه الأحزاب في مؤتمر باريس وأنشأت منظمة الأممية الثانية. لكن مركز ثقل الحركة العمالية خلال تلك الفترة ظل متمركزاً بالكامل على التراب الوطني، ضمن إطار الدول الوطنية، على أساس الصناعة الوطنية، ضمن نطاق البرلمانية الوطنية.
أفرزت عقود من النشاط التنظيمي الإصلاحي جيلاً كاملاً من القادة، أقرّ معظمهم قولاً ببرنامج الثورة الاجتماعية، لكنهم نبذوه فعلاً، غارقين في الإصلاحية، في تكيّفٍ وديع مع الدولة البرجوازية. وقد انكشف الطابع الانتهازي للأحزاب القيادية في الأممية الثانية تماماً؛ وأدى ذلك إلى أكبر انهيار في تاريخ العالم في وقتٍ تطلب فيه مسار الأحداث التاريخية أساليب نضال ثورية من أحزاب الطبقة العاملة. وإذا كانت حرب عام 1870 وجهت ضربةً إلى الأممية الأولى، كاشفةً عن غياب قوة جماهيرية متماسكة وراء برنامجها الاجتماعي الثوري، فإن حرب عام 1914 قضت على الأممية الثانية، كاشفةً عن أن أقوى منظمات الجماهير العاملة كانت تحت سيطرة أحزابٍ تحولت إلى أجهزةٍ مساعدةٍ للدولة البرجوازية![17]
لم يقتصر فهم الكومنترن للأممية على أنها تضامن بين العمال فحسب، بل فهم الثورة كعملية دولية لا يمكن تحقيقها إلا من خلال فهم دقيق للتطور العالمي وتجارب الطبقة العاملة في كل بلد على حدة، كجزء من ثروة الخبرة التي اكتسبتها الحركة الشيوعية بأكملها. ما كان ذلك منظور أممي فحسب، بل كان منظور الثورة العالمية. أوضح تروتسكي ذلك ببراعة في رده على الاتهام بأن البلاشفة فرضوا المنظور الروسي على فصائل الكومنترن الأخرى:
من وجهة نظرنا، يُنظر إلى الاقتصاد العالمي كوحدة عضوية تتطور على أساسها الثورة البروليتارية العالمية؛ وتستمد الأممية الشيوعية توجهها من المُركب الاقتصادي العالمي بأكمله، محللةً إياه بالأساليب العلمية الماركسية، ومستفيدةً من جميع تجارب النضالات الماضية.
هذا لا يستبعد، بالطبع، بل يفترض أن لتطور كل بلد سماته الخاصة، وأن لكل موقف خصوصياته، وهكذا. ولكن لتقييم هذه الخصوصيات تقييماً صحيحاً، لا بد من مقاربتها في سياقها الدولي.[18]
إن فهم الوضع العالمي برمته من خلال التجارب التاريخية للحركة في كل بلد، بهدف تطوير استراتيجية ثورية، هو تجسيدٌ لدعوة لينين في كتابه 'المادية والنقد التجريبي'، ولا يزال أساس حزبنا حتى يومنا هذا.
هنا أيضاً، توصل الكومنترن إلى استنتاجات تنظيمية حاسمة للغاية. كان أحد الشروط الـ 21 هو العمل تحت سلطة الكومنترن ولجنته التنفيذية. ولأول مرة، أُنشىء حزب دولي حقيقي بهذه الطريقة. كتب تروتسكس استعداداً للمؤتمر الثاني: لنكرر، الأممية الشيوعية ليست مجموعاً حسابياً لأحزاب العمال الوطنية، بل هي الحزب الشيوعي للبروليتاريا العالمية. من حق الشيوعيين الألمان، بل من واجبهم، أن يطرحوا السؤال مباشرةً: على أي أساس ينتمي توراتي [2] لحزبهم؟ عند دراسة مسألة انضمام الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني المستقل والحزب الاشتراكي الفرنسي إلى الأممية الثالثة، من حق الشيوعيين الروس، بل من واجبهم، أن يضعوا الشروط التي من شأنها، من وجهة نظرهم، أن تحمي حزبنا الدولي من التفكك والانحلال. كل منظمة تنضم إلى صفوف الأممية الشيوعية تكتسب بدورها الحق والفرصة للتأثير بفعالية على نظرية وممارسة البلاشفة الروس، والسبارتاكوس الألمان، إلخ.[19]
عند النظر إلى بيانات ومناقشات المؤتمرات الأربعة الأولى للكومنترن ككل، نجد لغة فريدة لا نجدها إلا بيننا اليوم. إنها السعي الحثيث لاختراق ديناميكيات الطبقة الموضوعية والتطور العالمي، وفي الوقت نفسه الكتابة مباشرةً من أجل النضال، والتدخل في هذا التطور بكل ما أوتينا من قوة. وقد قاوم الكومنترن، في جميع الأوقات، كل محاولات إضعاف البرنامج والتكيف مع الضغوط الوطنية.
أقر الكومنترن في مؤتمريه الثالث والرابع، بانحسار الانتفاضة الثورية مؤقتاُ، لكنه قدّم تحليلات شاملة لأسباب عدم قدرة الرأسمالية على العودة إلى استقرارها الذي كانت عليه قبل الحرب، وأسباب قدوم عواصف جديدة. في ظل تلك الظروف، أولى الكومنترن اهتماماً بالغاً لمسألة كيفية مناورة الأحزاب الشيوعية في خضمّ الصراع الطبقي، وكسب ثقة الطبقة، وفصل جماهير العمال عن المنظمات الإصلاحية. وقد لخص تروتسكي أهمية المؤتمر الثالث على النحو التالي:
لاحظ المؤتمر الثالث تفاقم انهيار الأسس الاقتصادية للحكم البرجوازي. لكنه حذر في الوقت نفسه العمال الطليعيين بشدة من أي تصورات ساذجة مفادها أن هذا ينجم عنه تلقائياً هلاك البرجوازية من خلال هجوم متواصل من البروليتاريا. ما سبق قط أن سُلّحت غريزة البرجوازية الطبقية، حفاظًا على الذات، بأساليب دفاع وهجوم متعددة الأشكال كما هو الحال اليوم. إن الشروط الاقتصادية لانتصار الطبقة العاملة متاحة. وإذا لم يتحقق هذا النصر، وما لم يتحقق في المستقبل القريب تقريباً فإن الحضارة كلها مهددة بالانحدار والانحطاط. لكن لا يمكن تحقيق هذا النصر إلا بإدارة المعارك بمهارة، وقبل كل شيء، بكسب غالبية الطبقة العاملة أولاً. هذا هو الدرس الرئيسي للمؤتمر الثالث.[20]
سرعان ما عادت هذه الأسئلة المتعلقة بالقيادة إلى الواجهة عندما تطور الوضع الثوري في ألمانيا عام 1923. كانت المناقشات التي دارت آنذاك في الكومنترن تعبيراً عن الصراعات المتنامية بين الماركسيين والبيروقراطية المتنامية في الاتحاد السوفيتي. لكن جو سيتحدث عن ذلك الآن.
أودّ أن أختتم كلمتي بالإشارة إلى أنه على الرغم من الإرهاب الدولي والافتراء التاريخي، عجز ستالين عن محو هذا التقليد. إنه لا يزال حياً في حركتنا. من خلال العمل على الأمن والأممية الرابعة، لم تعزز رابطة العمال روابطها بهذا التاريخ فحسب، بل دفعته أيضًا إلى الأمام في أفضل تقاليدها بتوجيه نيرانها إلى الستالينيين والإمبرياليين، وقبل كل شيء، إلى التحريفيين، ومن خلال فهم الأهمية التاريخية لهذا النضال. لقد أثبتت أن البابلويين قد انفصلوا من جميع النواحي عن النضال الثوري من أجل استقلال الطبقة العاملة، وعن تقاليد ثورة أكتوبر والكومنترن.
[1] North, David & Kishore, Joseph, “Socialism and the Centenary of the Russian Revolution,” in: Why study the Russian Revolution?, Volume 1, p. 13 (Oak Park: Mehring Books 2017)
[2] V. I. Lenin, Materialism and Empirio-Criticism,” Collected Works, Vol. 14 (Moscow: Progress Publishers, 1968), p. 325
[3] Kishore, Joseph, “Spontaneity and Consciousness in the February Revolution, in: Why study the Russian Revolution?, Volume 1, p. 92 (Oak Park: Mehring Books 2017)
[4] North, David, In Defense of Leon Trotsky, p. 14 (Oak Park: Mehring Books, 2010)
[5] Quoted from: North, David, The Russian Revolution and the Unfinished 20th Century, pp. 353 (Oak Park: Mehring Books, 2014)
[6] Trotsky, Leon “Our Differences,” in 1905, pp. 314-317 (New York: Random House, 1971)
[7] Day, Richard & Gaido, Daniel, Witnesses to Permanent Revolution, pp. 444-445 (Brill 2009)
[8] Trotsky, Leon, The Permanent Revolution, https://www.marxists.org/archive/trotsky/1931/tpr/index.htm
[9] North, David, In Defense of Leon Trotsky, p. 18 (Oak Park: Mehring Books, 2010)
[10] North, David, “Why Study the Russian Revolution,” in: Why Study the Russian Revolution?, Volume 1, p. 32 (Oak Park: Mehring Books 2017)
[11] Lenin, “The Tasks of the Proletariat in our Revolution,” p. 67, Collected Works, Vol. 24, Moscow 1964)
[12] Lenin Collected Works Volume 25, pp. 366-368 (Moscow: 1964)
[13] North, David, “Why Study the Russian Revolution,” in: Why Study the Russian Revolution?, Volume 1, pp. 20-21 (Oak Park: Mehring Books 2017)
[14] Trotsky, Leon, Lessons of October, https://www.wsws.org/en/special/library/lessons-of-october-leon-trotsky-1924/01.html
[15] Trotsky, Leon, “Manifesto of the Communist International to the Workers of the World,” https://www.marxists.org/archive/trotsky/1924/ffyci-1/ch01.htm
[16] Trotsky, Leon, “Manifesto of the Second World Congress,” https://www.marxists.org/archive/trotsky/1924/ffyci-1/ch12b.htm
[17] Trotsky, Leon, “Manifesto of the Communist International to the Workers of the World,” https://www.marxists.org/archive/trotsky/1924/ffyci-1/ch01.htm
[18] Trotsky, Leon, “On the Policy of the KAPD,” https://www.marxists.org/archive/trotsky/1924/ffyci-1/ch13.htm
[19] Trotsky, Leon, “On the Coming Congress of the Comintern,” https://www.marxists.org/archive/trotsky/1924/ffyci-1/ch10.htm
[20] Trotsky, Leon, “The Main Lesson of the Third Congress,” https://www.marxists.org/archive/trotsky/1924/ffyci-1/ch25.htm