العربية

بيان الأممية الشيوعية إلى عمال العالم

ينشر موقع الاشتراكية العالمية هنا 'بيان الأممية الشيوعية إلى عمال العالم' الذي كتبه ليون تروتسكي، و ألقاه في المؤتمر الأول للأممية الشيوعية في موسكو. اعتُمد البيان بالإجماع في 6 آذار /مارس 1919، في الجلسة الختامية للمؤتمر. وهو مطبوع أيضاً في المجلد الأول من كتاب 'السنوات الخمس الأولى للأممية الشيوعية'، المتوفر للشراء لدى دار نشر مهرينغ.

ننشر هذا البيان كنصٍّ مُكمِّل للمحاضرة التي ألقاها كريستوف فاندراير في المدرسة الصيفية الدولية لحزب المساواة الاشتراكية لعام 2025. وفي إطار هذه السلسلة، سنواصل إعادة نشر أهم كتابات ليون تروتسكي ووثائق اللجنة الدولية للأممية الرابعة، لا سيما تلك المتعلقة بتحقيق الأمن والأممية الرابعة.

جمع المؤتمر الأول للأممية الشيوعية 51 مندوباً من جميع أنحاء أوروبا وخارجها. حاز خمسة وثلاثون منهم على حق التصويت الكامل، بينما شارك ستة عشر آخرون بصفة استشارية. و حالت عقباتٌ شديدة، تراوحت بين حصار الحلفاء والقمع المباشر، دون مشاركة الكثيرين أو تأخيرها، بمن فيهم ممثلون من إيطاليا وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة.

على مدار عدة أيام، ناقش المندوبون تأسيس الأممية الجديدة، وتوجهاتها البرامجية، والنضال ضد الديمقراطية البرجوازية والاتجاهات الوسطية، وردّ الفعل على الإمبريالية وقوى الوفاق. وتجسدت الخاتمة المحورية في بيان تروتسكي، الذي حدد أهداف ومبادئ الأممية الشيوعية.

ضمّ الوفد الروسي لينين، وتروتسكي، وزينوفييف، وبوخارين، وتشيشيرين، بينما كان فوروفسكي وأوسينسكي نواباً للمندوبين.

بيان الأممية الشيوعية إلى عمال العالم

قبل اثنين وسبعين عاماً، أعلن الحزب الشيوعي برنامجه للعالم في بيان كتبه أعظم رواد الثورة البروليتارية، كارل ماركس وفريدريك إنجلز. وحتى في ذلك الوقت، ما إن دخلت الشيوعية ساحة النضال حتى حاصرتها الإغراءات والأكاذيب والكراهية واضطهاد الطبقات المالكة التي شعرت بحق أن الشيوعية عدوها اللدود. سار تطور الشيوعية خلال ثلاثة أرباع القرن هذا على مسارات معقدة، جنباً إلى جنب مع فترات من الصعود العاصف، عرف فترات من التراجع؛ و جنباً إلى جنب مع نجاحات هزائم قاسية. ولكن في جوهرها، سارت الحركة على طول المسار الذي أشار إليه البيان الشيوعي مسبقاً. جاء عصر النضال النهائي الحاسم متأخراً عما توقعه رائدي الثورة الاشتراكية وأملا فيه. ولكنه جاء. نحن الشيوعيون، ممثلو البروليتاريا الثورية من مختلف بلدان أوروبا وأمريكا وآسيا، المجتمعون في موسكو السوفيتية، نشعر ونعتبر أنفسنا ورثة ومُنجزي القضية التي أُقرّ برنامجها قبل 72 عاماً. مهمتنا هي تعميم التجربة الثورية للطبقة العاملة، وتطهير الحركة من شوائب الانتهازية والاشتراكية الوطنية المُفسدة، وتوحيد جهود جميع الأحزاب الثورية الحقيقية للبروليتاريا العالمية، وبالتالي تسهيل وتسريع انتصار الثورة الشيوعية في جميع أنحاء العالم.

اليوم، في وقت غطى أوروبا الدخان المتصاعد من الحطام والأنقاض ، انشغل أسوأ مُشعلي الحرائق في التاريخ بالبحث عن المجرمين المسؤولين عن الحرب. وتبعهم في أعقابهم خدمهم، الأساتذة وأعضاء البرلمان والصحفيون والاشتراكيون الوطنيون وغيرهم من قوادي البرجوازية السياسيين. لسنوات عديدة، تنبأت الحركة الاشتراكية بحتمية الحرب الإمبريالية، ورأت أسبابها في الجشع الذي لا يشبع لطبقات مالكي العقارات في المعسكرين الرئيسيين، وبشكل عام، في جميع الدول الرأسمالية. في مؤتمر بازل، قبل عامين من انفجار الحرب، اتهم القادة الاشتراكيون المسؤولون في جميع البلدان الإمبريالية بأنهم يتحملون مسؤولية الحرب الوشيكة، وهددوا البرجوازية بالثورة الاشتراكية التي ستنزل على رأس البرجوازية كقصاص بروليتاري لجرائم العسكرة. واليوم، بعد تجربة السنوات الخمس الماضية، وبعد أن كشف التاريخ عن الرغبات المفترسة لألمانيا، ها هو يفضح الأفعال الإجرامية التي ارتكبها الحلفاء، واصل الاشتراكيون في دول الوفاق، السير على خطا حكوماتهم، واكتشاف مجرم الحرب في شخص القيصر الألماني المخلوع.

ناهيك عن أن الوطنيين الاجتماعيين الألمان الذين أعلنوا في آب/أغسطس 1914 أن 'الكتاب الأبيض' الدبلوماسي لسلالة هوهينزولرن الحاكمة هو أقدس إنجيل للشعوب، وهام يسيرون اليوم على خطى اشتراكيي الوفاق، ويوجهون اتهامات دنيئة للملكية الألمانية المخلوعة، التي خدموها بعبودية شديدة، باعتبارها مجرم الحرب الرئيسي. إنهم يأملون بذلك في إخفاء دورهم وفي الوقت نفسه التسلل إلى إرضاء الغزاة. ولكن في ضوء الأحداث المتكشفة والكشوفات الدبلوماسية، جنباً إلى جنب مع دور السلالات الحاكمة المخلوعة، رومانوف وهوهينزولرن وهابسبورغ، والزمر الرأسمالية في هذه البلدان، برز دور الطبقات الحاكمة في فرنسا وإنجلترا وإيطاليا والولايات المتحدة بكل إجرامها اللامحدود.

لم ترفع الدبلوماسية الإنجليزية ستار السرية حتى اندلاع الحرب. من الواضح أن حكومة المدينة خشيت الكشف عن نيتها دخول الحرب إلى جانب دول الوفاق حرصاً على عدم استفزاز حكومة برلين بحيث تضطر إلى تجنبها. في لندن، أرادوا الحرب. ولذلك تصرفوا بطريقةٍ أشعلت الآمال في برلين وفيينا بأن تبقى إنجلترا على الحياد، بينما اعتمدت باريس وبتروغراد بقوة على تدخل إنجلترا.

اندلعت الحرب من خلال استفزاز مباشر وواعي من بريطانيا العظمى التي كانت مستعدةً لمسار التطور الكامل على مدى عقود . وبالتالي، ارتأت الحكومة البريطانية تقديم ما يكفي من المساعدة لروسيا وفرنسا، بينما كانتا منهكتين، لاستنزاف عدو إنجلترا اللدود، ألمانيا. لكن قوة العسكرية الألمانية أثبتت أنها هائلة للغاية، وتطلبت من إنجلترا تدخلاً فعلياً وليس رمزياً في الحرب. وقع دور الشريك الثالث المبهج الذي كانت بريطانيا العظمى، وفية لتقاليدها العريقة، على عاتق الولايات المتحدة.

أصبحت حكومة واشنطن أكثر تقبّلاً للحصار الإنجليزي الذي قيّد من جانب واحد مضاربات أسواق الأسهم الأمريكية ذات الأصول الأوروبية، لأن دول الوفاق عوضت البرجوازية الأمريكية بأرباح طائلة نظير انتهاكات 'لقانون الدولي'. إلا أن التفوق العسكري الهائل لألمانيا دفع حكومة واشنطن إلى التخلي عن حيادها الزائف. وفيما يتعلق بأوروبا ككل، تولّت الولايات المتحدة الدور الذي لعبته إنجلترا في الحروب السابقة و حاولت أن تلعبه في الحرب الأخيرة فيما يتعلق بالقارة، ألا هو إضعاف معسكر من خلال تأليبه ضد آخر، والتدخل في العمليات العسكرية فقط بما يضمن لها جميع مزايا الوضع. ووفقاً للمعايير الأمريكية للمقامرة، ما كان رهان ويلسون كبيراً جداً، لكنه كان الرهان النهائي، وبالتالي ضمن فوزه بالجائزة.

نتيجةً للحرب، واجهت البشرية تناقضات النظام الرأسمالي في صورة جوع وإرهاق من البرد وأوبئة وهمجية أخلاقية. حسم هذا نهائياً الجدل الأكاديمي داخل الحركة الاشتراكية حول نظرية الإفقار والانتقال التدريجي من الرأسمالية إلى الاشتراكية. و استخرج الإحصائيون والمتحذلقون، على مدى عقود، من جميع أنحاء العالم حقائق حقيقية أو خيالية شهدت على تزايد رفاهية مختلف فئات الطبقة العاملة. واعتُبرت نظرية الإفقار الجماعي مدفونة، وسط سخرية ازدراء من خصيان الأساتذة البرجوازيين وبيروقراطيي الانتهازية الاشتراكية. وفي الوقت الحاضر، برز أمامنا هذا الإفقار، الذي ما عاد اجتماعياً فحسب، بل فيزيولوجياً وبيولوجيا ًأيضاً، بكل حقيقته الصادمة.

قضت كارثة الحرب الإمبريالية تماماً على جميع مكاسب النضالات النقابية والبرلمانية. فتلك الحرب بالتحديد كانت نتاجاً للاتجاهات الداخلية للرأسمالية، تماماً كما كانت الاتفاقيات الاقتصادية والتسويات البرلمانية التي دفنتها الحرب في الدماء والأوساخ.

شهد رأس المال المالي، الذي دفع البشرية إلى هاوية الحرب، هو نفسه تحولاً كارثياً خلال تلك الحرب إذ تداعى اعتماد النقود الورقية على الأساس المادي للإنتاج تماماً. ومع فقدانها التدريجي لأهميتها كوسيلة ومنظم لتداول السلع الرأسمالية، تحولت النقود الورقية إلى أداة للمصادرة ء والاستيلاء والعنف العسكري-الاقتصادي بشكل عام.

عكس انخفاض قيمة النقود الورقية الأزمةَ المميتة العامة لتداول السلع الرأسمالية. خلال العقود التي سبقت الحرب، كانت المنافسة الحرة، بوصفها مُنظِّمة للإنتاج والتوزيع، قد أُقصيت جانبًا في المجالات الرئيسية للحياة الاقتصادية من قِبل نظام الاحتكارات والتكتلات المالية الضخمة؛ وخلال مسار الحرب، انتُزع الدور التنظيمي والتوجيهي من أيدي هذه المجموعات الاقتصادية ونُقل مباشرةً إلى أيدي سلطة الدولة العسكرية. ما نُظم توزيع المواد الخام، واستغلال نفط باكو أو رومانيا، وفحم دونباس، والقمح الأوكراني، ومصير القاطرات الألمانية وعربات الشحن والسيارات، وتوزيع الإغاثة على أوروبا الجائعة كل هذه المسائل الأساسية للحياة الاقتصادية العالمية وفق المنافسة الحرة، ولا بجمعيات الاحتكارات والتكتلات الوطنية والدولية، بل بالتطبيق المباشر للقوة العسكرية، من أجل الحفاظ عليها. 'إذا كان الخضوع الكامل لسلطة الدولة لسلطة رأس المال المالي قد قاد البشرية إلى المذبحة الإمبريالية، فإن رأس المال المالي نجح من خلال هذه المذبحة في عسكرة ليس الدولة فحسب، بل نفسه أيضاً؛ وما عاد قادراً على أداء وظائفه الاقتصادية الأساسية إلا عن طريق الدم والحديد.

إن الانتهازيين، الذين حثّوا العمال قبل الحرب العالمية على الاعتدال من أجل الانتقال التدريجي إلى الاشتراكية، والذين طالبوا خلال الحرب بالانقياد الطبقي باسم السلم الأهلي والدفاع الوطني، طالبوا الآن مجدداً بتخلي البروليتاريا عن نفسها، هذه المرة بهدف التغلب على العواقب الوخيمة للحرب. لو لاقت هذه المواعظ قبولاً لدى الجماهير العاملة، لعاد التطور الرأسمالي بأشكال جديدة أكثر تركيزًا ووحشية على عظام أجيال عديدة، مع احتمال نشوب حرب عالمية جديدة لا مفر منها. ولحسن حظ البشرية، هذا مستحيل.

أصبح إحكام قبضة الدولة على الحياة الاقتصادية، الذي طالما احتجّت عليه الليبرالية الرأسمالية بشدة، حقيقة واقعة. لا مجال للتراجع عن هذه الحقيقة، فمن المستحيل العودة ليس فقط إلى المنافسة الحرة، بل حتى إلى سيطرة الاحتكارات والنقابات وغيرها من الأخطبوطات الاقتصادية. والسؤال الوحيد اليوم هو: من سيتولى من الآن فصاعداً الإنتاج الذي تشرف عليه الدولة، الدولة الإمبريالية أم دولة البروليتاريا المنتصرة؟

بعبارة أخرى: هل ستصبح البشرية الكادحة كلها عبيداً لعصابات عالمية منتصرة، تحت مسمى عصبة الأمم، وبمساعدة جيش 'دولي' وأسطول 'دولي'، ستنهب وتخنق بعض الشعوب هنا وتُلقي الفتات للآخرين هناك، بينما تُقيّد البروليتاريا في كل مكان ودائماً بهدف وحيد هو الحفاظ على حكمها؟ أم أن الطبقة العاملة في أوروبا والدول المتقدمة في أجزاء أخرى من العالم يجب أن تأخذ على عاتقها الاقتصاد الممزق والمدمر من أجل ضمان إعادة إحياءه على المبادئ الاشتراكية؟

'لا يمكن اختصار عصر الأزمة الذي نعيشه إلا بإجراءات ديكتاتورية البروليتاريا التي لا تنظر إلى الماضي، ولا تحترم الامتيازات الموروثة ولا حقوق الملكية، و تنطلق من ضرورة إنقاذ الجماهير الجائعة؛ ولهذا الغرض تحشد كل القوى والموارد، وتقدم التجنيد الإجباري الشامل، وتنشئ نظام الانضباط العمالي من أجل أن تتمكن خلال بضع سنوات ليس فقط من شفاء الجروح العميقة التي أحدثتها الحرب، ولكن لتتمكن أيضاً من رفع البشرية إلى آفاق جديدة غير مسبوقة.

إن الدولة القومية التي أعطت دفعة قوية للتنمية الرأسمالية أصبحت أضيق من أن تسمح بمزيد من تطوير القوى المنتجة. وهذا زاد من هشاشة وضع الدول الصغيرة، المحاصرة من قبل القوى الكبرى في أوروبا والمتناثرة في أنحاء أخرى من العالم. هذه الدول الصغيرة، التي نشأت في أوقات مختلفة كأجزاء مقتطعة من دول أكبر، وكعملات زهيدة تُدفع لقاء خدمات متنوعة، وكحواجز استراتيجية، تحتفظ بسلالاتها الحاكمة، وزمرها الحاكمة، ومطامعها الإمبريالية، ومؤامراتها الدبلوماسية. قبل الحرب، ارتكز استقلالها الوهمي على نفس الشيء الذي استند إليه توازن أوروبا: العداء المستمر بين المعسكرين الإمبرياليين. لقد زعزعت الحرب هذا التوازن. فمن خلال منح ألمانيا تفوقاً هائلاً في البداية، أجبرت الحرب الدول الصغيرة على البحث عن خلاصها تحت أجنحة العسكرة الألمانية الرحيمة. بعد سحق ألمانيا، تحولت البرجوازية في الدول الصغيرة، إلى جانب 'الاشتراكيين' الوطنيين التابعين لها، نحو إمبريالية الحلفاء المنتصرة وبدأت في البحث عن ضمانات لاستمرار وجودها المستقل في النقاط المنافقة لبرنامج ويلسون.

في الوقت نفسه، ازداد عدد الدول الصغيرة؛ إذ نُحتت دول جديدةمن الملكية النمساوية المجرية، ومن أجزاء من الإمبراطورية القيصرية السابقة، ، وما كادت أن تولد حتى تقاتلت فيما بينها حول مسألة حدود الدول. وفي الوقت نفسه، عدّ الإمبرياليون المتحالفون مثل هذه التركيبات من القوى الصغيرة، القديمة والجديدة على حد سواء، بحيث ترتبط ببعضها البعض من خلال قبضة الكراهية المتبادلة والعجز المشترك. وبينما يضطهد الإمبرياليون المتحالفون وينتهكون حقوق الشعوب الصغيرة والضعيفة، وبينما يحكمون عليها بالجوع والدمار، فإنهم، مثل إمبرياليي الإمبراطورية المركزية قبل فترة وجيزة، لا يكفون عن الحديث عن حق تقرير المصير، الذي يُداس اليوم تحت الأقدام في أوروبا كما في جميع أنحاء العالم الأخرى.

لا يمكن ضمان فرصة العيش الحر للشعوب الصغيرة إلا بالثورة البروليتارية التي ستحرر القوى المنتجة في جميع البلدان من براثن الدول القومية، وتوحد الشعوب في تعاون اقتصادي أوثق على أساس خطة اقتصادية مشتركة، وتتيح لأضعف الشعوب وأصغرها فرصة إدارة شؤونها الثقافية الوطنية بحرية واستقلالية دون أي مساس بالاقتصاد الأوروبي والعالمي الموحد والمركزي.

الحرب الأخيرة، التي كانت في معظمها حرباً من أجل المستعمرات، كانت في الوقت نفسه حرباً شُنت بمساعدة المستعمرات. انجرت شعوب المستعمرات إلى الحرب الأوروبية على نطاق غير مسبوق. من أجل ماذا قاتل الهنود والزنوج والعرب والمدغشقريون على أراضي أوروبا ؟ من أجل حقهم في الاستمرار في البقاء عبيداً لإنجلترا وفرنسا. ما سبق قط أن وُضعت وصمة العار التي لحقت بالحكم الرأسمالي في المستعمرات بهذا الوضوح؛ وما سبق قط أن طُرحت مشكلة العبودية الاستعمارية بهذه الحدة كما هي اليوم.

ومن ثمّ، اندلعت ثوراتٌ عارمةٌ واحتدمت الثورة في جميع المستعمرات. وفي أوروبا نفسها، لا تزال أيرلندا تُشير، من خلال معارك شوارع دموية، إلى أنها لا تزال تشعر بأنها بلدٌ مُستعبد. وفي مدغشقر، وآنام، وغيرهما، قمعت قوات الجمهورية البرجوازية انتفاضات العبيد المستعمرين خلال الحرب أكثر من مرة. وفي الهند، ما هدأت الحركة الثورية يوماً واحداً، وأدت مؤخراً إلى أكبر إضرابات عمالية في آسيا، قابلتها الحكومة الإنجليزية بتوجيه عرباتها المدرعة للتدخل في بومباي.

وهكذا طُرحت المسألة الاستعمارية بأكمل صورها، ليس فقط على خرائط المؤتمر الدبلوماسي في باريس، بل داخل المستعمرات نفسها. وفي أحسن الأحوال، تمثلت مهمة برنامج ويلسون في إحداث تغيير في التسميات المتعلقة بالعبودية الاستعمارية. ولا يمكن تصور تحرر المستعمرات إلا بالتزامن مع تحرر الطبقة العاملة في المدن الكبرى. ولن يحصل العمال والفلاحون في آنام والجزائر والبنغال فحسب، بل وفي بلاد فارس وأرمينيا أيضاً، على فرصة وجودهم المستقل إلا في تلك الساعة التي يكون فيها عمال إنجلترا وفرنسا، استولوا على سلطة الدولة بأيديهم بعد أن أطاحوا بلويد جورج وكليمنصو،. وحتى الآن، فإن النضال في المستعمرات الأكثر تطوراً، وإن جرى فقط تحت راية التحرر الوطني، يتخذ فوراً طابعاً اجتماعياً محدداً إلى حد ما. إذا كانت أوروبا الرأسمالية قد جرّت بالقوة أكثر قطاعات العالم تخلفاً إلى دوامة العلاقات الرأسمالية، فإن أوروبا الاشتراكية سوف تأتي لمساعدة المستعمرات المحررة بتكنولوجيتها وتنظيمها وتأثيرها الأيديولوجي من أجل تسهيل انتقالها إلى اقتصاد اشتراكي مخطط ومنظم.

يا عبيد المستعمرات في أفريقيا وآسيا! ستدقّ لكم ساعة ديكتاتورية البروليتاريا في أوروبا بوصفها ساعة تحرركم! اتهم العالم البرجوازي بأكمله الشيوعيين بتدمير الحرية والديمقراطية السياسية. هذه أكاذيب. فما أن تتولى البروليتاريا السلطة، تكشف ببساطة عن استحالة استخدام أساليب الديمقراطية البرجوازية، وتُهيئ الظروف والأشكال لديمقراطية عمالية جديدة وأرقى بكثير. عمل مسار التطور الرأسمالي بأكمله، لا سيما خلال عصره الإمبريالي الأخير، على تقويض الديمقراطية السياسية ليس فقط بتقسيم الأمم إلى طبقتين متخاصمتين خصام لا هوادة فيه، ولكن أيضاً بإدانة العديد من الطبقات البرجوازية الصغيرة و البروليتاريا، وكذلك أكثر شرائح البروليتاريا حرماناً، بالضعف الاقتصادي والعجز السياسي.

في البلدان التي أتاح لها التطور التاريخي الفرصة، استغلت الطبقة العاملة نظام الديمقراطية السياسية لتنظيم صفوفها ضد الرأسمالية. وسيحدث الأمر نفسه مستقبلاً في البلدان التي ما نضجت فيها بعدُ ظروف الثورة البروليتارية. لكن الرأسمالية أعاقت جماهير واسعة، ليس فقط في القرى، بل في المدن أيضاً، وجعلتها متخلفة عن التطور التاريخي عصوراً كاملة.

الفلاح في بافاريا وبادن الذي لا يزال يعجز عن رؤية ما وراء أبراج كنيسة قريته، ومنتج النبيذ الفرنسي الصغير الذي يدفعه كبار الرأسماليين الذين يغشون النبيذ إلى الإفلاس، والمزارع الأمريكي الصغير الذي نهبه وخدعه المصرفيون وأعضاء الكونغرس، كل تلك الفئات الاجتماعية التي أبعدتها الرأسمالية عن التيار الرئيسي للتنمية، مدعوة، نظرياً، من قبل نظام الديمقراطية السياسية لتولي قيادة الدولة.

لكن في الواقع، في جميع المسائل الأساسية التي تُحدد مصائر الشعوب، تتخذ الأوليغارشية المالية القرارات من وراء ظهر الديمقراطية البرلمانية. هكذا كان الحال سابقاً في مسألة الحرب، وهكذا هو الحال الآن في مسألة السلام. وبقدر ما لا تزال الأوليغارشية المالية تُكلف نفسها عناء الحصول على موافقة التصويت البرلماني على أعمال العنف التي تقوم بها، فإن الدولة البرجوازية، لتحقيق النتائج اللازمة، تضع تحت تصرفها جميع أدوات الكذب والدجل والتحريض والافتراء والرشوة والإرهاب، الموروثة من قرون من عبودية الطبقات، والمُضاعفة بمعجزات التكنولوجيا الرأسمالية.

إن مطالبة البروليتاريا بالامتثال التام لقواعد وأنظمة الديمقراطية السياسية في المعركة الحاسمة مع الرأسمالية، أشبه بمطالبة رجل يصارع الموت من أجل حياته ضد قاطعي الرقاب، بمراعاة القواعد المصطنعة والمقيدة للمصارعة الفرنسية، التي فرضها العدو لكنه لا يلتزم بها.

ففي مملكة الدمار هذه، حيث لا تُصبح وسائل الإنتاج والنقل فحسب، بل ومؤسسات الديمقراطية السياسية أيضاً، أكواماً من الجذوع الملطخة بالدماء، تُجبر البروليتاريا على إنشاء جهازها الخاص، المصمم في المقام الأول لتوطيد الروابط الداخلية للطبقة العاملة وضمان إمكانية تدخلها الثوري في مستقبل البشرية. ويمثل هذا الجهاز مجالس العمال.

أثبتت الأحزاب القديمة، والمنظمات النقابية القديمة، في شخصيات قممها القيادية، عجزها ليس فقط عن حل المهام التي فرضها العصر الجديد، بل حتى عن فهمها. خلقت البروليتاريا نوعاً جديداً من التنظيم، وهو تنظيم واسع النطاق ضم الجماهير العاملة بغض النظر عن المهنة أو مستوى التطور السياسي الذي أُنجز بالفعل؛ وهو جهاز مرن يسمح بالتجديد والتوسع المستمرين؛ وقادر على جذب شرائح جديدة باستمرار إلى مداره، وفتح أبوابه على مصراعيها للشرائح الكادحة في المدينة والريف القريبة من البروليتاريا. اختُبر هذا التنظيم الذي لا غنى عنه للحكم الذاتي للطبقة العاملة، وهذا التنظيم لنضالها من أجل سلطة الدولة ثم الاستيلاء عليها لاحقاً، في تجربة مختلف البلدان، وشكل أقوى فتوح وسلاح للبروليتاريا في عصرنا.

Loading