العربية

الاستراتيجية الاقتصادية لليون تروتسكي

هذا هو الجزء الأول من محاضرة 'الاشتراكية الأممية في مواجهة الإصلاحية القومية' التي ألقاها كلارا فايس وكريس مارسدن وبيتر سيموندز في المدرسة الصيفية لحزب المساواة الاشتراكية (الولايات المتحدة) لعام 2025، حول تاريخ تحقيق الأمن والأممية الرابعة. ولإكمال قراءة هذا الجزء من المحاضرة، نشجع القراء على قراءة مقال ليون تروتسكي 'نحو الاشتراكية أم الرأسمالية'، الذي سينشر موقع الاشتراكية العالمية ترجمته المنقحة قريباً.

ستركز هذه المحاضرة على التجارب الاستراتيجية للثورة العالمية التي عززت الحركة التروتسكية نفسها على أساسها باعتبارها الاستمرار الوحيد للماركسية الثورية في القرنين العشرين والحادي والعشرين. وفي قلب الصراع التاريخي للتروتسكية ضد الستالينية وقف منظور الثورة الاشتراكية الدولية. وكانت السياسة الاقتصادية السوفيتية إحدى الساحات الرئيسية الأولى التي ظهر فيها هذا الصدام الأساسي بين المنظور التاريخي والتوجه الطبقي. ففي 15 أكتوبر 1923، أعلن 46 من البلاشفة القدامى تضامنهم السياسي مع مواقف ليون تروتسكي بشأن مسائل السياسة الاقتصادية والديمقراطية الداخلية للحزب. وطالبوا بالقضاء على 'النظام الفئوي' وتوطيد التخطيط وتعزيز الصناعة السوفيتية.[1] لفهم القضايا الطبقية المتضمنة في هذا الصراع، من الضروري أولاً وقبل كل شيء شرح أصول وطبيعة الاقتصاد السوفيتي، ولو بإيجاز.

أصول الاقتصاد السوفيتي

كانت استراتيجية تروتسكي الاقتصادية في النضال ضد الستالينية تجسيداً لمفهومه عن الثورة الدائمة. وكما أوضح الرفيق كريستوف فاندراير في المحاضرة السابقة، فقد توقع بهذه النظرية، قبل غيره وبوضوح أكبر، أن الإصلاح الثوري في روسيا سيكتسب طابعاً اشتراكياً ودولياً. تميز تحليل تروتسكي بنهجه الدولي: فهو لم ينطلق من تطور الاقتصاد في روسيا، بل من ظهور اقتصاد عالمي متكامل عالميا، ومن التطور التاريخي الكامل للثورة الاجتماعية. وعلى هذا الأساس، أدرك أن الدول ذات التطور الاقتصادي المتأخر، مثل روسيا، لن تحاكي ببساطة تطور فرنسا أو إنجلترا. بل ستشهد، بسبب اندماجها في النظام الرأسمالي العالمي، عملية 'تطور مركب وغير متكافئ'.

ففي حين كانت روسيا قبل عام 1917 من نواحٍ عديدة، دولةً متخلفةً ذات طابع زراعي في الغالب، وفّرت الدول الإمبريالية الأوروبية الرائدة رأس المال والتكنولوجيا اللازمين للتصنيع في روسيا. ونتيجةً لذلك، امتلكت المصانع في روسيا أحدث المعدات التكنولوجية. أما الطبقة العاملة، وإن كانت صغيرةً نسبياً، فقد كانت شديدة التركيز. ومن خلال صادراتها الزراعية، أصبح الاقتصاد الفلاحي أيضاً معتمداً على السوق العالمية. في غضون ذلك، اعتمدت البرجوازية الروسية على رأس المال المالي العالمي بقدر ما كانت عاجزةً في مواجهة القيصرية.

أدرك تروتسكي أنه في ظل هذه الظروف، كانت الطبقة العاملة هي الطبقة الوحيدة القادرة على تحقيق المهام غير المنجزة للثورة الديمقراطية البرجوازية. ومع ذلك، ستُجبر على القيام بذلك من خلال التدابير الاشتراكية.

  • ففي حين تصور لينين، قبل عام 1917، دكتاتورية طبقتين، الطبقة العاملة والفلاحين، أدرك تروتسكي أن الفلاحين، كطبقة اعتمدت على الملكية الخاصة لوسائل إنتاجها، سيدخلون في نهاية المطاف في صراع مع التدابير الاشتراكية للثورة. ولا يمكن تجنب صراع مفتوح بين الطبقة العاملة والفلاحين إلا من خلال امتداد الثورة إلى بلدان أكثر تقدماً، مما سيسمح بارتفاع هائل وسريع للقوى المنتجة. لذلك، دعا إلى دكتاتورية الطبقة العاملة، بالتحالف مع فقراء الفلاحين، كبداية وجزء لا يتجزأ من الإصلاح الاشتراكي للاقتصاد العالمي. وقد تأكد هذا المنظور في مجمل ديناميكيات العملية الثورية التي اكتسبت فوراً بُعداً دولياً، سياسياً واقتصادياً. كان لثورة أكتوبر تأثير بعيد المدى ليس فقط على الرأسمالية الروسية، بل على الإمبريالية العالمية أيضاً. فما هي هذه الانتصارات على المستوى الاجتماعي والاقتصادي؟
  • أولاً، صادرت الحكومة الثورية جميع البنوك الكبرى وألغت ديون روسيا الخارجية. كانت روسيا آنذاك أكبر مدينة أجنبية في العالم، مما كان له تأثير هائل على رأس المال الأجنبي.
  • ثانياً، صادرت وأمّمت الشركات الكبرى، بما فيها تلك المملوكة لشركات ألمانية وفرنسية وبلجيكية وبريطانية ويابانية.
  • ثالثاً، أرسى البلاشفة احتكاراً للتجارة الخارجية، ما عنى أن جميع الصادرات والواردات كانت خاضعة لإشراف وتنظيم الدولة السوفيتية.
  • رابعاً، أرسى البلاشفة، وإن كان بشكل بدائي، أسس التخطيط الاشتراكي.

بعد الاستيلاء على السلطة، غزت جيوشٌ إمبرياليةٌ الجمهوريةَ السوفيتيةَ على الفور تقريباً، بما في ذلك جيوشٌ من ألمانيا وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة واليابان. واضطر الجيش الأحمر بقيادة ليون تروتسكي إلى الدفاع عن انتصارات الثورة وتوسيع نطاقها بالكفاح المسلح. ولكن على الرغم من اندلاع الحركات الثورية في إيطاليا وألمانيا والمجر، فشلت الطبقة العاملة في الاستيلاء على السلطة بسبب خيانة الاشتراكية الديمقراطية. ونتيجةً لذلك، اقتصر الاتحاد السوفيتي، عند تأسيسه في كانون الأول/ ديسمبر 1922، على أجزاءٍ كبيرةٍ من الإمبراطورية الروسية السابقة.

لكن في حين ألغت الثورة حكم رأس المال داخل حدود الاتحاد السوفيتي، إلا أنها ما خلصته من تأثير ديناميكيات الاقتصاد العالمي والإمبريالية. ونظراً لعزلة الثورة، انعكست تلك الديناميكيات الآن في العلاقات الطبقية داخل الاتحاد السوفيتي، وخاصةً بين الطبقة العاملة والفلاحين. وقد وجد هذا الصراع الاجتماعي الجوهري بين الإمبريالية والثورة الاشتراكية، أو بعبارة أخرى، بين البرجوازية العالمية والطبقة العاملة، تعبيره السياسي في الصراع المتزايد ضراوةً بين البيروقراطية الستالينية والحركة التروتسكية.

السياسة الاقتصادية الجديدة

في ربيع عام 1921، طرحت القيادة البلشفية ما سُمى بالسياسة الاقتصادية الجديدة، التي تضمنت تنازلات كبيرة لرأس المال الخاص. فقد أدت التضحيات الهائلة التي نتجت عن الحرب الأهلية، من فقدان ملايين العمال والفلاحين في الحرب والمجاعة والمرض وتدمير جزء كبير من البنية التحتية الصناعية والنقلية في البلاد، إلى استنزاف السكان. وكاد الفلاحون أن يثوروا. وأدت انتكاسات الثورة العالمية إلى بقاء الجمهورية السوفيتية معزولة لفترة أطول بكثير مما كان متوقعاُ. في ظل هذه الظروف، كانت التنازلات لرأس المال الخاص ضرورية لوقف الانهيار المتكشف وتمكين الانتعاش الاقتصادي.

ماذا تضمنت السياسة الاقتصادية الجديدة؟ سُمح للفلاحين بالانخراط في التجارة الخاصة لبيع منتجاتهم. وفي المدن، أُعيد تطبيق المبادئ الأساسية لإدارة المشاريع الخاصة.

ومع ذلك، وعلى النقيض مما كان عليه الحال قبل عام 1917، احتفظت الدولة السوفيتية بالسيطرة على التجارة الخارجية، أي أنه ما كان بإمكان الفلاحين تصدير الحبوب وغيرها من المنتجات بأنفسهم، كما ما كان بإمكان مديري الصناعة استيراد المنتجات المصنعة الأرخص من الدول الرأسمالية المتقدمة. وظلت الصناعة والنقل مؤممتين بنسبة 90%. وكانت رافعات التمويل بدورها في أيدي الدولة. وهكذا، كان هناك صراع مستمر بين قطاع رأسمالي بالأساس، تمحور حول الزراعة، وقطاع اشتراكي تمحور حول الصناعة. وكانت الطبقات الاجتماعية التي استفادت أكثر من غيرها من 'القطاع الرأسمالي' هي التجار من القطاع الخاص والفلاحون الأثرياء وما سُمي بـ'المديرين الحمر' وقطاعات من بيروقراطية الدولة التي شاركت في التجارة الخاصة وتوسطت فيها. وكانت الطبقة التي اعتمدن بشكل أساسي على القطاع الاشتراكي وارتبطت به هي الطبقة العاملة.

بحلول عام 1923، كان من الواضح أن السياسة الاقتصادية الجديدة قد استبقت الانهيار الاقتصادي وسهلت الانتعاش. لكن هذا الانتعاش كان غير متكافئ إلى حد كبير. عانت الصناعة بشدة أكبر بكثير وتعافت بسرعة أبطأ من الزراعة. [16] في هذه الأثناء، هيمن تجار القطاع الخاص، أي الفلاحون والتجار الأغنياء (ما سُمي 'رجال السياسة الاقتصادية الجديدة') على تجارة الحبوب. وبالتالي، تمثل الخطر في أن الانتعاش الاقتصادي لن يعزز موقف الطبقة العاملة، بل موقف الاتجاهات المؤيدة للرأسمالية في المجتمع السوفيتي، المتمركزة في الريف. بعبارة أخرى، طرحت نجاحات الانتعاش الاقتصادي بحدة السؤال التالي: نحو الرأسمالية أم الاشتراكية؟ حدد تروتسكي تلك المشكلة الجوهرية في وقت مبكر من نيسان/ أبريل 1923. في تقريره إلى المؤتمر الثاني عشر للحزب، صاغ مصطلح 'أزمة المقص'. أدى انهيار الصناعة وعجزها عن إنتاج سلع صناعية للريف بجودة عالية وأسعار منخفضة إلى تفاوت متزايد بين أسعار السلع الصناعية (التي اشتراها الفلاحون في الغالب) وأسعار السلع الزراعية (التي اشتراها العمال في الغالب) ما يُسمى 'المقص'. بمعنى آخر، ما تمكنت الصناعة من تلبية الطلب.

فرض هذا قيوداُ ليس فقط على الاستهلاك، بل و على الصادرات والواردات. و أعاق هذا بدوره، تطور الصناعة. في هذه الحالة، حتى الحصاد الجيد أثار مخاطر جسيمة: إذ زاد من عجز المدن عن تلبية طلب الريف وتسويقه. وهذا من شأنه أن يوفر حافزاُ إضافياُ لتشجيع تجار القطاع الخاص والفلاحين الأغنياء في مساعيهم للارتباط المباشر برأس المال العالمي، وتصدير الحبوب خارج سيطرة الدولة السوفيتية، أي من خلال القضاء على احتكار التجارة الخارجية. و لو نجحوا، لصاروا الأساس الاجتماعي لاستعادة الرأسمالية والقضاء على مكاسب أكتوبر. فما الحل إذن؟

طوال الفترة 1923-1927، أوضح تروتسكي والمعارضة أنه لا من غير الممكن التغلب على التفاوت بين الزراعة والصناعة إلا من خلال نهج مخطط لتطوير الصناعة. وفي الوقت نفسه، يجب على الدولة زيادة صادرات الحبوب واستخدام الإيرادات لتمويل التصنيع. والأهم من ذلك، أدرك تروتسكي أن كل تقدم للاقتصاد السوفيتي زاد حتماً من اعتماده على السوق الرأسمالية العالمية. وفي عام 1925، أوضح تروتسكي: 'بفضل إنجازاتنا تحديداً، دخلنا السوق العالمية، أي أصبحنا جزءاً من التقسيم العالمي للعمل، مع بقائنا في بيئة رأسمالية. في ظل هذه الظروف، سيحدد معدل نمونا الاقتصادي قوة مقاومتنا للضغط الاقتصادي لرأس المال العالمي وللضغط العسكري السياسي للإمبريالية العالمية'.[2]

كان السؤال المطروح هو كيف ستدير القيادة السوفيتية تلك العملية وتنظمها بما يحقق أقصى استفادة للطبقة العاملة منها. وإلا، فإن القوى المؤيدة للرأسمالية داخل المجتمع السوفيتي ستستغل هذه العملية نفسها حتماً لمصلحتها.

أصر تروتسكي على استخدام أحدث الموارد التكنولوجية، ورأس مال السوق العالمية كلما أمكن، لتسريع تطوير الصناعة السوفيتية وتحسين جودة منتجاتها. وإلا، فإن الصناعة السوفيتية ستظل حتماً متخلفة عن الصناعة الرأسمالية العالمية. وبعبارة أخرى، 'لا يمكننا تسريع تنميتنا بشكل شامل إلا إذا كنا قادرين على استخدام الموارد التي تتدفق من شروط التقسيم الدولي للعمل'.[3]

هذا النهج الدولي للسياسة الاقتصادية السوفيتية، الذي استند إلى تقييم ماركسي للهيمنة الموضوعية للاقتصاد العالمي، رُفض ببرنامج 'الاشتراكية في بلد واحد' الذي أعلنه ستالين في كانون الأول/ ديسمبر 1924، الذي استلزم رد فعل ضد الأممية الثورية والماركسية على المستوى السياسي والاقتصادي أيضاً.

تاريخ 'الاشتراكية في بلد واحد' ومحتواها الطبقي

قد يبدو هذا المفهوم عبثياً للوهلة الأولى. في الواقع، كان له، كما أشار تروتسكي مراراً، جانب 'ميتافيزيقي'، أي غير عقلاني. مع ذلك، سياسياً ونظرياً، كان لمفهوم بناء 'الاشتراكية في بلد واحد' تقليد عريق، ومثّل مصالح طبقية حقيقية. و استند إلى نفس النظرة الإصلاحية القومية التي وجّهت سياسات الجناح التنقيحي من الاشتراكية الديمقراطية، التي بلغت ذروتها بخيانته عام 1914. وقد صاغ جورج فون فولمار، أحد أبرز منظري الإصلاحية القومية، مفهوم 'الدولة الاشتراكية المنعزلة' في مقال له عام 1878. وكان فرديناند لاسال، أحد مؤسسي الحركة الاشتراكية الألمانية، قد طرح توجهاً قومياً-دولياً قبل ذلك.

ما رأى لاسال في الدولة أداة للحكم الطبقي، بل كيان فوق طبقي ضمن التقدم الاجتماعي. وناشد الحكومة البروسية منح الطبقة العاملة إصلاحات وتسريع التنمية الصناعية في ألمانيا. كان لاسال مقتنعاً بأن الاشتراكية يمكن، بل ينبغي، أن تتحقق في إطار وطني. لقد تصور الاشتراكية على أنها نتاج نضال 'الأمة' وليس نضال الطبقة العاملة. ففي عام 1864، كتب: 'السوق العالمية ملك للأمة التي تقرر أولاً الشروع في إدخال هذا التحول الاجتماعي (أي الاشتراكية) على نطاق واسع. وستكون هذه هي المكافأة المستحقة لطاقتها وحسمها'.[4] وهكذا صاغ لاسال وفون فولمار نوعاً من 'اشتراكية الدولة البرجوازية' التي من شأنها أن تسمح بتطور أكثر كفاءة وسرعة لألمانيا البرجوازية وهيمنتها على نطاق عالمي.

مثلهما، ما انطلق ستالين وبوخارين من الاقتصاد العالمي والصراع الطبقي الدولي، بل من إطار وطني ضيق. أعلن بوخارين أن قوى السوق التي أطلقتها السياسة الاقتصادية الجديدة (NEP) لن تهدد التنمية الاشتراكية، بل ستشجع على الانتقال السلمي إلى الاشتراكية، داخل روسيا وحدها، بوتيرة 'سلحفاة'. وادعى بوخارين أن مجرد وجود الدولة السوفيتية كفل التطور نحو الاشتراكية في بلد واحد. وكما قال: 'إن الإطار العام للتطور في بلدنا مُحدد مسبقاً ببنية الديكتاتورية البروليتارية'.[5]

أعلنت هذه المفاهيم عملياً أن الصراع الطبقي داخل الاتحاد السوفيتي وخارجه غير موجود، أو على الأقل غير ذي أهمية لمصير الثورة. كانت وصفةً للانبطاح أمام أشد أعداء الطبقة العاملة والثورة مرارة، والرضا عن النفس في مواجهة خطر التدخل العسكري من جانب الإمبريالية، والهيمنة الاقتصادية الساحقة التي لا تزال قائمة.

من الناحية الطبقية، عبّرت 'الاشتراكية في بلد واحد' عن مصالح الطبقات الاجتماعية المؤيدة للرأسمالية التي شجعتها السياسة الاقتصادية الجديدة (NEP). ما اقتصر دعمهم على الفلاحين والتجار الأثرياء فحسب، بل شمل أيضاً أعداداً كبيرة من مسؤولي الدولة السابقين في الحقبة القيصرية الذين أُعيد دمجهم في الجهاز الاقتصادي وجهاز الدولة، وشكّلوا جزءاً كبيراً من البيروقراطية. وبقدر ما دعموا الدولة السوفيتية، فقد فعلوا ذلك لأنهم اعتبروها استمراراً للدولة الروسية القديمة. لقد أعربوا أحياناً بشكل علني وأحياناً أخرى بشكل ضمني عن أملهم في التخلي عن البرنامج الاشتراكي لثورة أكتوبر لصالح ما اعتبروه 'القضية الحقيقية': النهضة الوطنية العظيمة لروسيا.

عبّر نيكولاي أوستريالوف، زعيم ما سُمي بالتيار 'الوطني البلشفي'، عن آرائهم بصراحة. ربطت المعارضة بين 'الوطني البلشفي'، وهو في جوهره تيار مضاد للثورة بين المثقفين والبيروقراطيين السوفييت، والمسار الاقتصادي للقيادة الستالينية. وحذّرت من أن 'مسار أوستريالوف' سيتضمن 'تطويراً للقوى المنتجة على أساس رأسمالي من خلال التهام تدريجي لمكاسب أكتوبر'.[6] ما عبّر أحد عن هذا التوجه لاستعادة الرأسمالية بوضوح أكثر من بوخارين، زعيم الجناح اليميني في الحزب، الذي دعا الفلاحين الأغنياء علناً إلى 'إثراء أنفسهم'. كان ستالين زعيم ما أسمته المعارضة بالتيار 'الوسطي' داخل المكتب السياسي: متذبذباً بين اليسار واليمين، وكان أكثر من دافع عن مصالح البيروقراطية السوفييتية مباشرةً.

كجسم طفيلي على المجتمع السوفييتي، عبّرت البيروقراطية عن ضغط الإمبريالية العالمية على الدولة العمالية. ونظراً لافتقارها إلى جذور مستقلة ووظيفة أساسية في عملية الإنتاج، وازنت البيروقراطية باستمرار بين مختلف القوى الاجتماعية. وانخرطت في تعرجات محمومة متزايدة، واستجابت ببراغماتية للأزمات التي كانت في أغلب الأحيان من صنعها. وكان الجانب الثابت الوحيد في خط البيروقراطية هو نضالها المتزايد العزم والقسوة ضد الجناح الثوري للحزب بقيادة ليون تروتسكي. وحتى عام 1928، خاض جناح ستالين هذا النضال في تحالف وثيق مع الجناح اليميني المحيط ببوخارين. ولهذا السبب استخدم تروتسكي مصطلح 'الانحدار اليميني الوسطي' للفترة 1924-1927. خلال هذه السنوات، كما سيناقش الرفيقان كريس مارسدن وبيتر سيموندز في الأجزاء التالية من هذه المحاضرة، استكملت القيادة الستالينية تكيفها مع الطبقات البرجوازية داخل المجتمع السوفييتي بالتوجه نحو البيروقراطية العمالية الإصلاحية في إنجلترا والبرجوازية الوطنية في الصين.

نطاق الصراع داخل الحزب

في ختام هذا الجزء من المحاضرة، أودّ التأكيد على أن تروتسكي أدرك مبكًًا أن ما كان على المحك في ذلك الصراع ما كان مجرد قضايا تكتيكية أو سياسات فردية، بل استمرارية الماركسية ومصير الثورة العالمية. وقد شكّل هذا الفهم الطبقي والتاريخي جميع اعتباراته وسلوكه في الصراع داخل الحزب.

ففي حين مال معظم المؤرخين إلى التركيز على الصراع بين تروتسكي وستالين كصراع بين فردين، كان تروتسكي مدركاً تماماً أنه، مهما بلغت حدة الهجمات الشخصية عليه، فإنه لم يكن يمثل نفسه فحسب، بل قوى طبقية قوية على المستوى الوطني، وقبل كل شيء المستوى الدولي. لقد لعب هو وقادة آخرون في المعارضة الدور الأساسي في تأسيس الدولة السوفيتية ومؤسساتها الاقتصادية والسياسية والأكاديمية وقواتها المسلحة. بمهاجمتها للمعارضة، كانت القيادة الستالينية تنبذ المواقف والبرنامج السياسي، وفي نهاية المطاف، الكوادر البشرية أيضًا، التي شكلت أساس نجاح ثورة 1917. ومن ثم، كان من الضروري الحفاظ على كادر وتدريبه ليس فقط داخل الحزب البلشفي بل داخل الأممية الشيوعية بأكملها، على أساس النضال من أجل أقصى قدر من الوضوح السياسي بشأن القضايا الاستراتيجية الأساسية في العصر.

تجدر الإشارة إلى أنه في العقد الثالث من القرن الماضي، ما كتفت المعارضة بتقديم مقترحات سياسية فحسب. بل كان تروتسكي، وإيفار سميلغا، وجورجي بياتاكوف، ومئات المعارضين الآخرين، جزءاً لا يتجزأ من الجهاز الاقتصادي السوفيتي. وقد أدوا في كثير من الأحيان أدواراً مؤثرة للغاية، وحظوا بدعم كبير في قطاعات من الحزب وجهاز الدولة.

لذا، عندما نتحدث عن صراع، يجب ألا ينظر إليه الرفاق على أنه شأن فكري. ما كانت تلك مجرد معركة على الورق. لقد دُفع تروتسكي وأنصاره إلى موقف الأقلية بسبب تحول جذري في ميزان القوى الطبقية العالمي. لكن نتيجة هذا الصراع كانت واضحة. ففي كل يوم، وفي كل اجتماع حزبي تقريباً، وفي كل اجتماع لمؤسسات الدولة القيادية أو المتوسطة، ناضل قادة المعارضة وأنصارها من أجل سياساتهم، بل كانوا في كثير من الأحيان قادرين على تحديد الإيقاع.

ما توهم تروتسكي قط أنه كان من الممكن حل تناقضات الاقتصاد السوفيتي والثورة من خلال التدابير الاقتصادية وتغيير سياسة الدولة وحدها. كما كانت الثورة نتيجةً لعمليات عالمية، كان مصيرها سيُحسم على نطاق عالمي. فبين عامي 1924 و1927، كانت بريطانيا العظمى والصين أهم ساحتي معركة للثورة العالمية.

[1] The Declaration of the 46. Translation published on: https://www.wsws.org/en/articles/2023/10/16/yyac-o16.html 

[2] Leon Trotsky, Towards Socialism or Capitalism. Translation by this author.

[3] Ibid.

[4] Ferdinand Lassalle, Herr Bastiat-Schulze Delitzsch, der ökonomische Julian, oder: Capital und Arbeit, (Berlin: C. Ihring Nachf., 1874), p. 183. 

[5] Quoted in: Platform of the Opposition: The Party Crisis and How to Overcome It (September 1927), in: The Challenge of the Left Opposition (1926-27), ed. by Naomi Allen and George Saunders, (New York: Pathfinder Press, 1980), p. 323. 

[6] Ibid., p. 310.

Loading