هناك أحداثٌ تخترق صميم السياسة الرسمية والرأي العام المُدار إعلامياً، وتُفجّر المشاعر الشعبية. كان ما حدث بعد ظهر يوم السبت في مهرجان غلاستونبري الموسيقي في المملكة المتحدة أحد هذه الأحداث.
امتلأت الأيام التي سبقت المهرجان بمطالبات من كُتّاب أعمدة وسياسيين بشطب ثلاثي الراب الأيرلندي 'نيكاب' من قائمة المشاركين في أكبر مهرجان موسيقي وفنون حديث العهد في العالم، بسعة 210 آلاف شخص.
بلغ هذا ذروته عندما صرح رئيس الوزراء العمالي كير ستارمر لصحيفة ذا صن بأنه لا ينبغي السماح لهم بالعزف. كان القائمون على الرأي العام البرجوازي قلقين من أن موقف الفرقة المؤيد للفلسطينيين ، الذي وجه بسببه و إلى عضو الفرقة ليام أوغ أوهانايد (اسمه الفني مو شارا) تهم إرهابية ملفقة، سيجد دعماً شعبياً هائلاً.
في النهاية، كان الأمر أسوأ بالنسبة لهم مما خشوا.
اتخذ منتجو بي بي سي القرار الجبان بعدم عرض أداء نيكاب على الهواء مباشرة. وبدلاً من ذلك، انتقلوا إلى ثنائي البانك اللندني بوب فيلان، الذي قاد على الفور هتافات 'الحرية، الحرية لفلسطين!' و'الموت، الموت للجيش الإسرائيلي!'. شاهد جمهور، من الشباب في الغالب ، باشمئزاز وغضب القوات المسلحة الإسرائيلية تشن حرباً إجرامية من الاحتلال والإبادة الجماعية، رد بالآلاف.
أهدى فيلان المجموعة لمن 'فقدوا منبرهم للتحدث باسم الشعب الفلسطيني والتحدث ضد الجرائم التي تتواطأ فيها إسرائيل والمملكة المتحدة والولايات المتحدة ومعظم العالم الغربي'.
بعد ساعة، قالت إيمي تايلور من الفرقة الأسترالية أميل آند ذا سنيفرز للحشد: 'أفكر في الشعب الفلسطيني' ونددت بحكومتي حزب العمال في أستراليا والمملكة المتحدة 'لأفعالهما الفاشلة'.
في اليوم السابق، اختتم مغني البوب الأيرلندي CMAT الحفل بهتاف 'الحرية، الحرية لفلسطين!'. أهدى إيليجاه هيوستن من فرقة دبلن إنهالر أغنية 'لشعب فلسطين، لأي شعب بريء يُجوع أو يُقصف أو يُباد من أجل بعض المجانين'. و دعا جوردان ستيفنز، من فرقة ريزل كيكس، والدته إلى المسرح وهي ترتدي كوفية وتلوح بالعلم الفلسطيني.
كان رد فعل، في كل مرة، الجمهور هائلاً.
شاهد عشرات الآلاف عرض فرقة نيكاب في غلاستونبري، - واضطر المنظمون إلى إغلاق المنطقة المحيطة بمسرح ويست هولتس مع تزايد الأعداد، وسيشاهده ملايين آخرون على منصة بي بي سي آي بلاير.
ما أكسب الثلاثي مكانة مرموقة ليس فقط موقفهم المبدئي دفاعاً عن الفلسطينيين، بل أسلوبهم الجريء و رفضهم التراجع قيد أنملة.
أُدي عرض يوم السبت بتلك الروح. دوّت صيحات استهجان في البداية، بينما عُرضت مقاطع فيديو لشخصيات مختلفة أدانت الفرقة وطالبت بفرض الرقابة عليها. خرج الأعضاء الثلاثة وسط تصفيق حار، حيث أعلن مو شارا: 'غلاستونبري، أنا رجل حر!'، وانفجر الجمهور بهتافات 'الحرية لمو شارا!'. أشارت ناويز أو كيرالين (موغلاي باب)، وسط تصفيق متواصل، إلى التاريخ الهمجي للقمع الذي مارسته الإمبريالية البريطانية: 'ليست هذه هي المرة الأولى التي يحدث فيها خطأ قضائي في حق شخص أيرلندي في نظام العدالة البريطاني'.
ودعا إلى احتجاج خارج جلسة الاستماع القادمة في 20 آب /أغسطس 'والأهم من ذلك دعم فلسطين لأن هذا هو جوهر الأمر'.
وقال مو شارا للحشد: 'إسرائيل مجرمة حرب. إنها إبادة جماعية بحق'. وشكرت المجموعة الحضور على 'وقوفهم إلى جانب نيكاب، والدفاع عن فلسطين، والدفاع عن الحقيقة'. وقيل كل ذلك وسط بحر من مئات الأعلام الفلسطينية. ومازح مو شارا قائلاً: 'سيحصل محرر في بي بي سي على وظيفة'.
ولخّص موغلاي أهمية هذا التدفق الهائل من الدعم قائلاً: 'يريدون أن يجعلونا نعتقد أن حركة فلسطين صغيرة، وأن الأغلبية لا تدعم فلسطين، لكننا الأغلبية'.
ليس هذا فحسب، بل إن الهوة والعداء بين أغلبية الطبقة العاملة والطبقة الحاكمة، ووسائل إعلامها وحكوماتها، شاسعة. الهتاف الوحيد الذي نافس قوة شعور 'فلسطين حرة!' كان، 'اللعنة على كير ستارمر!'. بينما بذلت وسائل الإعلام والسياسيون قصارى جهدها لتصوير هذه المعارضة الاجتماعية على أنها صادرة في الغالب من اليمين، كذريعة لتعزيز القومية وكراهية الأجانب الموجهة ضد المهاجرين ، كان مهرجان غلاستونبري دليلاً آخر على هذا الواقع. هناك حركة حادة نحو اليسار في أوساط الغالبية العظمى من السكان، ولا سيما الشباب، التي عبّر عنها أكثر الفنانين تفكيراً و تشبثاً بالمبادئ.
كما أثبت استقبال فرقة نيكاب في مهرجان كوتشيلا الأمريكي، الذي أثار حملةً شرسةً ضده، واحتجاجات 'لا للملوك' الجماعية التي شارك فيها الملايين ضد ترامب، أن هذه ظاهرة عالمية.
علاوة على ذلك، شهدت الطبقة العاملة وجيلها الشاب تطرفا ًمتسارعاً. كانت آخر لحظة سياسية بارزة في غلاستونبري هي هتافات 'يا جيريمي كوربين!' عام 2017، معبرةً عن المراحل الأولى لحركة يسارية من العمال والشباب الذين توقعوا منه قيادة نضال ضد حزب المحافظين، والجناح اليميني لحزب العمال، ولاسيما ضد العنف والحرب على الطريقة الاستعمارية.
لكن السنوات التي مرت منذ ذلك الحين تركت بصماتها على الوعي الجماهيري: دعم النخبة الحاكمة العلني للإبادة الجماعية، واندلاع حرب في أوروبا شاركت فيها قوى نووية، وسياسة قتل جماعي خلال جائحة، وغيرها. لقد فقدت الكوربينية مصداقيتها بشكل كبير، لاسيما بسبب استسلامها لأكاذيب 'معاداة السامية اليسارية' التي تُستخدم الآن لتبرير تجريم الملايين.
لن تكتفي المشاعر المعادية للإمبريالية وحزب العمال، التي ظهرت في غلاستونبري، بعبارات كوربين الإصلاحية اللطيفة، ودعواته المهذبة، ونهجه السلمي المتساهل. تعالت هتافات الحشد عندما وعد مو شارا الجميع بأن 'يتذكروا' أولئك 'الذين أفسدوا كل شيء، وسيتذكرهم التاريخ أيضاً'.
ولن يخيف ستارمر هذه المشاعر. فحكومة حزب العمال في أزمة، تشن هجومًا تلو الآخر، وتستدعي في كل مرة رداً شعبياً مضاداً أكبر. وقد استقبلت الجماهير بمزيد من الهتافات دي جي بروفاي، كاشفاً عن قميص 'كلنا حركة فلسطين'، قبل أن تتخذ الحكومة خطوات لحظرها، واعتبار حتى التعبير عن الدعم لأعضائها 'إرهاباً'.
اتضح جلياً أن حكومة ستارمر ونظرائها الدوليين عازمون على حظر آراء غالبية السكان، وأنهم هم من يعانون من عزلة شديدة.
شعر الجميع بذلك إذ بدا ويس ستريتنج، النائب الصهيوني البارز، متحفظاُ على غير العادة في مقابلة صباح الأحد مع سكاي نيوز.
قبل بضعة أشهر، كان من شأن سؤال حول أحداث غلاستونبري أن يُشعل موجة من الانتقادات اليمينية لمعارضي دولة إسرائيل. لكن ستريتنج، الذي أدرك توازن الرأي العام، فضّل عدم 'التساهل' في الموضوع. كما شعر بأنه مُجبر على 'أن يقول للسفارة الإسرائيلية: نظّموا أموركم'.
لا شيء من هذا يُغيّر شيئًا في سياسات ستريتنج المؤيدة للإبادة الجماعية.
إن أكبر عائق أمام معارضة الإبادة الجماعية في غزة وداعمي إسرائيل الإمبرياليين هو القيادة السياسية الحالية للحركة المناهضة للحرب و الداعمة لفلسطين، وغياب فهم واضح لدى الطبقة العاملة لإيجاد بديل.
مال الشعور السياسي الشعبي إلى أقصى اليسار متجاوزاً كوربين وبيرني ساندرز وشخصيات سياسية مماثلة في جميع أنحاء العالم. ولكن ليتمكن من تجاوزهم، يجب عليه، تطوير برنامج موازن لهم، أي حركة اشتراكية ثورية وأممية ضد الإبادة الجماعية والحرب، قادرة على حشد القوة الاجتماعية الوحيدة القادرة على هزيمة المجرمين الإمبرياليين في داونينج ستريت والبيت الأبيض وجميع عواصم أوروبا الطبقة العاملة الدولية، وهو سيفعل هذا .