دونالد ترامب هو رئيس الولايات المتحدة، لكنه يحكم نيابةً عن أوليغارشية رأسمالية. هذا استنتاج سياسي أساسي يمكن استخلاصه من أحداث الثماني والأربعين ساعة الماضية.
الخطوط العريضة للأحداث واضحة. أطلق ترامب خطته لفرض رسوم جمركية صارمة على جميع دول العالم تقريباً، وأعلن أنه لن يكون هناك تراجع، وسخر من الأسواق المتدهورة، وأكد أن الآن هو 'وقت مثالي للاستثمار'.
بعد ساعات فقط، اجتمع ترامب مع مستشارين مليارديرين، وزير الخزانة سكوت بيسنت ووزير التجارة هوارد لوتنيك، اللذين نقلا إجماعًا في وول ستريت على أن كارثة مالية وشيكة. وبينما كانوا يضغطون على القضية، أصدر ترامب بياناً على منصة 'تروث' للتواصل الاجتماعي، معلناً 'توقفاً' لمدة ٩٠ يوماً في حربه الجمركية، باستثناء الصين.
هذا الاستثناء ذو أهمية حاسمة، إذ تُصعّد الإدارة حربها الاقتصادية ضد الصين، تمهيدًا لأشكال أكثر مباشرة من العدوان. ومع ذلك، كان التأجيل المؤقت لمعظم التعريفات الجمركية الأخرى بمثابة تراجع واضح من جانب ترامب.
وكما جاء في عنوان افتتاحية صحيفة فاينانشال تايمز يوم الخميس: 'دونالد ترامب ينحني أمام قوة الأسواق'.
قبل التراجع، أدت موجة بيع مكثفة استمرت يومين في سوق الأسهم إلى خسارة أكثر من 6 تريليونات دولار، حيث خسرت شركة آبل وحدها 600 مليار دولار من قيمتها السوقية، وتكبدت شركات التكنولوجيا الأخرى، التي تُصنّع معظم منتجاتها في جنوب وشرق آسيا، خسائر مماثلة. كان هناك إدانة واسعة النطاق للتعريفات الجمركية من قبل الشركات الأمريكية، لكن ترامب وكبار مساعديه أعلنوا أن الأزمة ستنحسر وأن النتيجة النهائية لسياسة التعريفات الجمركية ستكون 'العصر الذهبي الجديد' الذي أعلنه ترامب للرأسمالية الأمريكية.
كان انتشار الذعر المالي إلى سوق السندات يومي الاثنين والثلاثاء أكثر أهمية من انخفاض أسعار الأسهم، حيث من المقرر أن تدخل الرسوم الجمركية حيز التنفيذ صباح الأربعاء. وكان التأثير على سوق سندات الخزانة الأمريكية بالغ الأهمية، إذ تبلغ قيمتها 28 تريليون دولار، وهي الأكبر في العالم والمعيار القياسي للمعاملات المالية في جميع أنحاء العالم.
وشاهد ترامب سوق السندات وهو يتراجع يوم الثلاثاء، قائلاً: 'رأيت الليلة الماضية حيث شعر الناس ببعض الغثيان'. وأقر بأنه شاهد مقابلة صباح الأربعاء أجراها الرئيس التنفيذي لشركة جي بي مورغان تشيس، جيمي ديمون، مع ماريا بارتيرومو على قناة فوكس بيزنس، و قال فيها ديمون إن الركود 'نتيجة محتملة' لزيادات الرسوم الجمركية. وحذر ديمون قائلاً: 'أتبنى وجهة نظر هادئة، لكن الوضع قد يزداد سوءاً'.
وكانت هناك تعليقات أكثر صراحة. فقد أرسل توماس لي، الشريك الإداري ورئيس قسم الأبحاث في شركة فندسترات جلوبال أدفايزرز، مذكرة يوم الأربعاء، نُقل عنها في موقع كوارتز، مفادها أن العديد من مديري الصناديق قلقون من أن البيت الأبيض لا يتصرف بعقلانية. كتب لي: 'يخشى البعض ألا يكون هذا مجرد دافع أيديولوجي. وتساءل البعض سراً عما إذا كان الرئيس مجنوناً'.
كان هناك قلق كبير من أن يضطر صندوق التحوط الفيدرالي للتدخل هذا الأسبوع للتعامل مع أزمة، لم تكن ناجمة عن ذعر مصرفي أو جائحة فيروسية، بل عن قرار سياسي اتخذه الرئيس الأمريكي، قرارٌ أثار تساؤلاتٍ ليس فقط حول قيمة هذا الاستثمار أو ذاك، بل حول استقرار الحكومة الأمريكية ودور الدولار الأمريكي كأساس للرأسمالية العالمية.
حذّرت افتتاحية في صحيفة واشنطن بوست من أنه:
في أوقات الذعر، عادةً ما تجذب هذه السندات المستثمرين. لكن فشلها في ذلك هذه المرة عكس تراجع الثقة في قدرة الحكومة الأمريكية على سداد ديونها.
وأشارت الصحيفة، المملوكة للملياردير جيف بيزوس، مؤسس أمازون، إلى 'قصة تحذيرية' عن انهيار الحكومة البريطانية عام 2022 بعد أن أقرّت رئيسة الوزراء ليز تروس برنامجاً جمع بين التخفيضات الضريبية والاقتراض المكثف. أثار هذا ذعراً مالياً هدد بانهيار صناديق التقاعد وأجبرها على التراجع عن برنامجها. وبعد بضعة أسابيع، غادرت منصبها.
قدمت أحداث الأسبوع الماضي فضحاً لاذعاً للأسس الطبقية للدولة الرأسمالية. انهار ترامب 'الذي لا يُقهر' أمام مطالب سوق السندات وجيمي ديمون. احتاجت وول ستريت إلى تصحيح مسارها، و حصلت عليه. كانت خسائر السوق البالغة تريليونات الدولارات والهزات التي أصابت سوق سندات الخزانة كافية لإجبارها على التراجع المفاجئ، وإن كان مؤقتاً.
صوّر الحزب الديمقراطي ترامب كعملاق سياسي لا يُقهر. ويدّعي عجزه في مواجهة تفكيكه للحقوق الديمقراطية، وسياساته في الحرب التجارية، وتصريحاته الفاشية. لماذا؟ لأن قادته يتشاركون المصالح الطبقية نفسها. فالديمقراطيون، شأنهم شأن الجمهوريين، يخدمون النخبة المالية، ولن يُبدوا أي معارضة حقيقية للسياسات التي تدافع عن ثروتها ومكانتها العالمية.
اشتد وضوح هذا الواقع من خلال التناقض بين نفوذ وول ستريت ،والتجاهل التام للمظاهرات الحاشدة التي اجتاحت البلاد في الخامس من أبريل. فقد خرج الملايين إلى الشوارع لمعارضة استبداد ترامب، وحملته الحربية، وهجماته على المهاجرين والعمال، بل و على الدستور نفسه. وفي حين عُدّت تحركات الأسواق موضوعاً لتعليقات لا تنتهي، تعاملت وسائل الإعلام مع الاحتجاجات الجماهيرية على أنها قضية ثانوية، بل محلية، سرعان ما اختفت كما لو أنها ما حدثت قط.
ليست إدارة ترامب من صنع رجل واحد، بل هي الأداة السياسية للأوليغارشية الرأسمالية. إن تدمير الحقوق الديمقراطية ليس مجرد نتيجة لدوافع ترامب الاستبدادية، بل هو إعادة تشكيل واعية للدولة لتعكس الواقع الاجتماعي لحكم الطبقة من قبل نخبة ضئيلة.
هناك صراعات شرسة داخل الطبقة الحاكمة، لكنها صراعات داخل الأوليغارشية، حول أفضل السبل للحفاظ على هيمنتها وقمع المعارضة الاجتماعية المتصاعدة. نبع من الطابع الطبقي للدولة الرأسمالية، استنتاج لا مفر منه: يجب على الطبقة العاملة أن تقطع علاقاتها بجميع فصائل الطبقة الحاكمة، وأن تخوض غمار النضال لإسقاطها.
يجب تطوير أشكال وهياكل جديدة للديمقراطية التشاركية الحقيقية، التي تنشأ في سياق النضالات الجماهيرية الثورية، وتمثل أغلبية الطبقة العاملة، أساساً لحكومة عمالية. أي حكومة عمالية، من العمال ولأجلهم، في الولايات المتحدة وحول العالم، كأساس لإعادة تنظيم الحياة الاقتصادية على أسس اشتراكية.