هذا هو الجزء الأول من محاضرة ألقاها ديفيد نورث، رئيس هيئة التحرير الدولية لموقع الاشتراكية العالمية وحزب المساواة الاشتراكية (الولايات المتحدة)، في جامعة ميشيغان في نوفمبر 1993، ضمن احتفال اللجنة الدولية للأممية الرابعة ورابطة العمال، سلف حزب المساواة الاشتراكية (الولايات المتحدة)، بالذكرى السبعين لتأسيس المعارضة اليسارية. استعرضت المحاضرة الأصول السياسية للمعارضة اليسارية، التي تأسست في أكتوبر 1923، في سياق الوضع الموضوعي الذي واجهه البلاشفة بعد ثورة 1917، والاتجاهات السياسية المختلفة داخل الحزب البلشفي. نُشر الجزء الثاني في 23 أكتوبر 2023.
لماذا ندرس المعارضة اليسارية؟
نبدأ هذا المساء أولى محاضرات سلسلة من ثلاث محاضرات مخصصة لأصول المعارضة اليسارية، التي أسسها ليون تروتسكي وشخصيات بارزة أخرى في الحزب الشيوعي الروسي قبل 70 عاماً. ربما حضر بعضكم هذه المحاضرة أملاً في معرفة المزيد عن الثورة الروسية. وهذا سبب وجيه تماماً لحضوركم الليلة؛ وآمل أن تجدوا هذه المحاضرة والمحاضرتين التاليتين ثريتين بالمعلومات. مع ذلك، لا بد لي من القول إن تأسيس المعارضة اليسارية حدثٌ تجاوز حيز الأهمية التاريخية. لقد تأثر العالم الذي نعيش فيه، إلى حدٍّ يفوق تصور معظمكم، بنتائج الصراع السياسي الذي بدأ قبل نحو 70 عاماً في روسيا السوفيتية؛ ولا يمكن فهم الوضع السياسي العالمي الراهن دون فهم القضايا التي أثارتها المعارضة اليسارية.
لتبرير هذا التقييم للأهمية المعاصرة للمعارضة اليسارية، يكفي أن نشير إلى الأحداث التي جرت فيما يُعرف الآن بـ'الاتحاد السوفيتي السابق'. في خريف عام 1987، ألقيتُ أربع محاضرات هنا في جامعة ميشيغان بمناسبة الذكرى السبعين لثورة أكتوبر. شرحت حينئذ، وجهة نظر اللجنة الدولية للأممية الرابعة، التي تنتمي إليها رابطة العمال، بأن سياسات غورباتشوف ستؤدي إلى انهيار الاتحاد السوفيتي وعودة الرأسمالية.
لا بد من الإشارة إلى أن غورباتشوف عُد في ذلك الوقت من عمالقة عصرنا، وأُشيد به كمهندس برنامجٍ مذهلٍ للإصلاح الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. كان مصطلحا 'البيريسترويكا' و'الغلاسنوست' مصطلحين رائجين عالمياً، حتى وإن أدركت قلة قليلة، بمن فيهم غورباتشوف نفسه، معناهما بشكل كامل. بلغت شعبية غورباتشوف ذروتها آنذاك، ليس فقط في الأوساط البرجوازية، بل أيضاً - بل بالأخص - في أوساط اليسار الراديكالي من الطبقة المتوسطة.
أكدت رابطة العمال واللجنة الدولية أن غورباتشوف مثل أقوى قطاعات البيروقراطية الستالينية السوفيتية؛ وأنه حاول صرف المعارضة المتنامية داخل الطبقة العاملة عن النظام الستاليني مع حماية مصالح البيروقراطية؛ وأن المضمون الاقتصادي لإصلاحاته كان في جوهره مؤيداً للرأسمالية، وبالتالي، مثّل ذروة خيانة الستالينيين المستمرة منذ عقود لبرنامج ثورة أكتوبر ومُثُلها وتطلعاتها.
أثبت كل ما حدث خلال السنوات الست الماضية صحة هذا التقييم. فقد اختارت مجلة تايم غورباتشوف 'رجل العقد'، وسرعان ما أُزيح من المشهد السياسي. وحل محله بوريس يلتسين، الذي كان بيروقراطياً ستالينياً قضى نحو 30 عاماً في الحزب الشيوعي، وتحت رعايته فُكك الاتحاد السوفيتي في ديسمبر/كانون الأول 1991.
لا شك أن انهيار الاتحاد السوفيتي حدثٌ بالغ الأهمية. لكن من اللافت للنظر مدى إساءة فهمه. ما كان الانهيار متوقعاً، وبالتأكيد ليس من قِبل الأنظمة الإمبريالية التي يُفترض أنها كانت أشدّ أعداء الاتحاد السوفيتي ضراوة. وإذا ما قُدِّم أي تفسير لهذا الانهيار المذهل، فهو أن سقوط الاتحاد السوفيتي مثّل 'فشل' الاشتراكية عموماً، والماركسية خصوصاً.
لكن هذه التصريحات لا ترقى إلى مستوى التفسير الحقيقي. بل افترضت ببساطة ما تبقى من إثبات. وهنا نصل إلى المغالطة الأساسية التي شكّلت لعقودٍ من الزمن الفرضية الأساسية لتلك الممارسة في الدعاية السياسية المعروفة في الجامعات باسم 'علم السوفييت'. نقطة انطلاق 'علم السوفييت' هي المماهاة الفظّة بين الستالينية والماركسية. وبناءً على هذا الأساس، قُدّمت السياسات التي انتهجتها الحكومات السوفيتية على مدى سبعة عقود ونصف وكأنها كل واحدا مترابط. افتُرض أن تاريخ البلشفية بدأ مع لينين وانتهي بمن أشارت إليهم وسائل الإعلام الرأسمالية، حتى يومنا هذا، بـ'المتشددين الشيوعيين'. منذ وقت ليس ببعيد، ظهرت مذكرات (المسؤول السوفيتي رفيع المستوى) إيغور ليغاشيف تحت عنوان 'آخر البلاشفة' والذي لا شك أن ناشريه الأمريكيين أوصوا به. يكفي أن تُلقي نظرة سريعة على كتاب السيد ليغاشيف لتقتنع بأن هذا الموظف البيروقراطي المُسنّ لا يتشابه مع البلشفية إلا بقدر ما يتشابه معها مسؤول مخضرم في مصلحة الضرائب. من المفارقات أن خط 'علم السوفييت' في الحرب الباردة تطابق تماماً مع خط الستالينيين أنفسهم، الذين زعموا، حتى وقت قريب نسبياً، أنهم يدافعون عن اللينينية وما زعموا أنه أرثوذكسية ماركسية. في الواقع، قبل عام 1985، كان يلتسين أيضاً ليصف نفسه بأنه ماركسي عنيد. تجدر الإشارة إلى أن هناك عدد كبير من أعمال الباحثين الجادين التي لا تقبل هذا الرأي، ولكن لم تكن أعمالهم هي التي شكلت أساس ما اعتُبر نقاشاً عاماً حول طبيعة الاتحاد السوفييتي.
أما الآراء التي تعارضت مع معاداة المؤسسة السياسية الشديدة للشيوعية، فقد أُخفيت، في معظمها، عن أنظار الجمهور، ومن الصعب جداً تقديم تقييم صحيح وعلمي للاتحاد السوفييتي وقيادته.
[subheading]
رسالة لم تُنشر
[/subheading]
سأضرب لكم مثالاً من تجربتي الشخصية. في يوليو/تموز 1990، رداً على مقال في صحيفة نيويورك تايمز، كتبتُ الرسالة التالية:
مؤخراً، أدانت هيئة تحريركم، متأخرةً، تقارير والتر دورانتي، المراسل السوفيتي لصحيفة التايمز في أوج عهد ستالين، ووصفتها بأنها من أسوأ ما نُشر في صحيفتكم على الإطلاق.
قد يكون هذا صحيحاً (أي أن دورانتي كان أسوأ مراسل تعاملوا معه على الإطلاق)، ولكن يمكن القول بحق إن تقارير مراسلكم الحالي، بيل كيلر، لا تُمثل تحسناً يُذكر.
فعلى سبيل المثال، كتب السيد كيلر في صحيفة التايمز بتاريخ 13 يوليو/تموز 1990 أن غورباتشوف 'كان ليتلذذ بمعرفة أنه نجح في تحييد الماركسيين الأرثوذكس كقوة داخل الحزب...'
يبدو أن السيد كيلر يفتقر إلى المعرفة بتاريخ الحزب الشيوعي السوفيتي. قام الجهاز الستاليني بـ'تحييد' 'الماركسيين الأرثوذكس' داخله، أي المعارضة اليسارية بقيادة ليون تروتسكي، من خلال عمليات الطرد الجماعي التي نُفذت في المؤتمر الخامس عشر للحزب في ديسمبر 1927، ثم بالنفي والسجن. لاحقاً، خلال محاكمات موسكو الصورية وما رافقها من عمليات تطهير دماء بين عامي 1936 و1939، تعرض 'الماركسيون الأرثوذكس' لعمليات قتل ممنهجة. اغتيل ليون تروتسكي، المؤسس المشارك للاتحاد السوفيتي، على يد عميل ستاليني في المكسيك عام 1940.
إن وصف السيد كيلر لفصيل ليغاشيف بأنه 'ماركسي أرثوذكسي'، ولليغاشيف نفسه بأنه 'ماركسي لينيني عقائدي'، هو وصفٌ سخيف سياسياً ومخادع فكرياً، تماماً مثل وصف الراحل دورانتي لمحاكمات موسكو بأنها فوق الشبهات القانونية. فمنذ أواخر العقد الثالث من القرن الماضي، ما لعبت الماركسية أي دور في صياغة السياسة السوفيتية. ظل الحزب الشيوعي لأكثر من 60 عاماً الأداة السياسية للبيروقراطية الستالينية الحاكمة.
خدم غورباتشوف وليغاشيف، بل ويلتسين، البيروقراطية السوفيتية لعقود. لا تدور الخلافات بنهم حول أدقّ نقاط النظرية الماركسية، بل حول كيفية الدفاع عن امتيازات مختلف شرائح البيروقراطية في ظلّ تحرّك النظام الستاليني، كما تنبأ ليون تروتسكي منذ زمن بعيد، نحو استعادة الرأسمالية.
ففي العقد الرابع من القرن العشرين، ساهمت صحيفة التايمز، من خلال تقارير دورانتي، في حشد الرأي العام الليبرالي الأمريكي لدعم ستالين في تصفية خصومه الماركسيين. واليوم، وبينما تستبعد الصحيفة من أعمدتها آراء معارضي الستالينية من اليسار، فإنها تُصر على ربط الماركسية بالبيروقراطية التي لطالما كانت عدوها اللدود. قد يخدم هذا الأجندة السياسية لناشري التايمز، ولكنه لا يمت بصلة إلى الحقيقة الموضوعية.
لم تُنشر تلك الرسالة، ليس فقط لأنني أهنتُ محرري صحيفة التايمز، بل لأنها أثارت قضايا واقعية لا يمكن التوفيق بينها وبين المصالح الأيديولوجية للطبقة الرأسمالية. ماذا سيحدث لنظرية الاستمرارية 'المتماسكة' للبلشفية، من لينين إلى غورباتشوف، أو على الأقل إلى تشيرنينكو، إذا كان ترسيخ ستالين والبيروقراطية التي قادها للسلطة قد تحقق بالفعل ليس فقط بقتل تقريباً كل شخصية سياسية بارزة في الثورة والحرب الأهلية، بل وبالإبادة الجسدية لمئات الآلاف من الكُتّاب والعلماء والفنانين الذين ارتبطت أعمالهم الفكرية والثقافية بطريقة ما بالسنوات البطولية الأولى للنظام البلشفي؟
إذا صحّ أن النظام الستاليني ما برز كنتيجة حتمية وضرورية لثورة أكتوبر، بل كنقيض لها، فلا بد أن لهذه الحقيقة آثار عميقة، ليس فقط على فهمنا للماضي، بل وعلى إدراك الحاضر.
ففي أعقاب انهيار الأنظمة الستالينية في أوروبا الشرقية وتفكك الاتحاد السوفيتي، ساد شعورٌ بالانتصار داخل الطبقة البرجوازية. قيل لنا إن نهاية الاتحاد السوفيتي كانت بمنزلة نهاية الاشتراكية والماركسية. و عكس كتاب 'نهاية التاريخ' هذا الشعور السائد زُعم أن البشرية وصلت إلى غايتها النهائية أي انتصار الرأسمالية الجامح. و اكتسب هذا الشعور معنىً سياسياً مع إعلان 'النظام العالمي الجديد'، حيث تفرض الولايات المتحدة إرادتها في جميع أنحاء العالم دون أي تحدٍ جدي.
لكن هذا الجنون لم يدم طويلاً. كان من الأسهل على كُتّاب الافتتاحيات وخبراء الإعلام ومراكز الفكر الجامعية إعلان موت الماركسية والاشتراكية بدلاً من القضاء على ميل معدل الربح إلى الانخفاض، وحل العداء بين الاقتصاد العالمي والدولة القومية سلمياً، وحظر الصراع الطبقي. وسواء بموافقة دعاة الطبقة الحاكمة وأيديولوجييها أو بدونها، فإن قوانين التاريخ العالمي وقوانين نمط الإنتاج الرأسمالي عملت تماماً كما حللها كارل ماركس.
فبعد أكثر من عامين بقليل من انهيار الاتحاد السوفيتي، غرقت الرأسمالية العالمية في أعظم أزمة نظامية لها منذ العقد الرابع من القرن الماضي وصارت اقتصادات جميع الدول الرأسمالية الكبرى في حالة ركود. العلاقات بين الدول الإمبريالية الرائدة في أسوأ حالاتها منذ السنوات التي سبقت الحرب العالمية الثانية. ففي الواقع، ما كان التماسك الداخلي لهذه الدول يوماً بهذا القدر من الهشاشة و من غير المؤكد ما إذا كانت بلجيكا أو إيطاليا أو بريطانيا أو إسبانيا أو كندا ستبقى على حالها بصيغتها الحالية كدول قومية بحلول نهاية هذا العقد. ويمكن، بالمناسبة، إضافة دول أخرى إلى القائمة.
في ظل الأزمة السياسية والاقتصادية الحادة، تُطرح القضايا الاجتماعية بحدة لم تشهدها فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. اقترب عدد العاطلين عن العمل في الدول الأوروبية الكبرى، من 20 مليوناً؛ وهذا حتى قبل أن نلمس فعليا ًالتأثير الكامل للإغلاقات الصناعية الضخمة التي يُعلن عنها يومياً. صار نظام دولة الرفاه الاجتماعي برمته، الذي أُشيد به لعقود باعتباره البديل السلمي الأعظم للثورة الاجتماعية العنيفة، لآن في طور التفكيك في جميع أنحاء أوروبا. وفي أكثر التعليقات مرارة على حالة المجتمع الرأسمالي، عادت الفاشية لتمثل قوة سياسية مؤثرة في أوروبا.
وفي الولايات المتحدة، يُعتبر التدهور المستمر للأوضاع الاجتماعية ارتفاع معدلات البطالة، وتعفن المدن، وتفاقم الفقر، أمراً مفروغاً منه؛ ولا تتظاهر الأحزاب الرأسمالية حتى بوجود حلول موثوقة لديها. ما حاولت المنظمات القائمة التي تدّعي تمثيل الطبقة العاملة حتى الدفاع عن المصالح الأساسية لقواعدها الانتخابية التقليدية في الولايات المتحدة ولا في أوروبا، في الواقع، أصبح من الواضح أن هذه المنظمات أي النقابات العمالية والأحزاب الاشتراكية الديمقراطية الآليات السياسية الرئيسية التي تسعى الدولة الرأسمالية من خلالها إلى منع، أو على الأقل عرقلة، التعبير الجماهيري المنظم عن المعارضة.
مع ذلك، يبقى الصراع الطبقي محرك التاريخ. لم يخترعه ماركس؛ بل كشف فقط عن دوره الأساسي في العملية التاريخية. يستطيع كُتّاب المقالات الافتتاحية كتابة نعيّهم لماركس، ويستطيع أساتذة الجامعات، بجهودهم المضنية نشر تفنيداتهم المُطابقة للجدلية التاريخية. لكن ذلك ما منع عمال الخطوط الجوية الفرنسية من تحدي الحكومة وإشعال فتيل أخطر أزمة سياسية منذ عام 1968 خلال الأسبوع الماضي. و ظهرت تقارير في الصحافة الفرنسية والدولية أفادت بأن رئيس الوزراء بالادور، الذي شعر بالغضب الاجتماعي الناجم عن البطالة الجماعية، أكثر من الحديث مع أقرب مساعديه عن خوفه من أن فرنسا على أعتاب ثورة عمالية. إن مخاوف السيد بالادور، على الأقل في الوقت الراهن، مبالغ فيها بعض الشيء، إذ إن الدافع الفكري والأخلاقي الحاسم للثورة الاشتراكية لا ينبع من الغضب وحده، بل من ثقة الجماهير المبررة بأن نضالها ضد النظام الاجتماعي القائم سيؤدي إلى مجتمع أفضل وأكثر عدالة. وهذا التوقع تحديداً هو الغائب حالياً، على الرغم من كل السخط والاشمئزاز اللذين أثارتهما الظروف الاجتماعية التي أفرزتها الرأسمالية. بعبارة أخرى، ما تفتقر إليه الطبقة العاملة هو منظور تاريخي. وبقدر ما يُنظر إلى انهيار الاتحاد السوفيتي على أنه انهيار الاشتراكية نفسها، فإن الطبقة العاملة عاجزة عن إيجاد مخرج من مأزقها الحالي.
يعيدنا هذا إلى مكانة ثورة أكتوبر في تاريخ العالم. هل دشنت هذه الثورة، كما اعتقد قادتها، حقبة جديدة في التطور الاجتماعي للإنسان؟ أم كانت تجربة مأساوية وطوباوية، ومشروع محكوم عليه بالفشل أدى بشكل حتمي إلى الستالينية وكل الأهوال التي تلتها؟
كيف نجيب على هذه الأسئلة؟ على أي أساس يمكننا القول إن الاتحاد السوفيتي كان من الممكن أن يتطور بشكل مختلف تماماً عما حدث بالفعل؟ هل هذه البدائل مجرد افتراضات لا علاقة لها بالحقائق التاريخية والسياسية؟ لحسن الحظ، نجد إجابة هذه الأسئلة في التاريخ نفسه. نحن لا نسترجع عقوداً من التاريخ السوفيتي ونقول: 'يا للأسف، كان ينبغي أن يكون الأمر مختلفاً' بل نستطيع أن نثبت وجود بديل للستالينية؛ وأن هذا البديل طُرح على أساس الماركسية من قِبل ليون تروتسكي، الذي لعب، بعد لينين نفسه، الدور الأكبر في قيادة ثورة أكتوبر والدفاع عن الدولة السوفيتية خلال الحرب الأهلية؛ وأن هذا البديل تجلّى في برنامج أيّدته معظم الشخصيات البارزة في الثورة البلشفية. علاوة على ذلك، تُظهر دراسة موضوعية للإرث البرامجي للمعارضة اليسارية البصيرة المذهلة في تحليلها للستالينية، وصولاً إلى إصرار تروتسكي على أن النظام الشمولي للبيروقراطية، سيؤدي إلى سقوط الاتحاد السوفيتي وعودة الرأسمالية ما لم تُطح به الطبقة العاملة.
الثورة الروسية كحدث من أحداث التاريخ العالمي
ما الحدث الذي نستذكره هذا المساء؟ في الثامن من أكتوبر/تشرين الأول عام 1923، وجّه ليف دافيدوفيتش تروتسكي، مفوض الحرب في الاتحاد السوفيتي، الذي اعترف حتى أشدّ معارضي الحكومة الثورية بكفاءته كسياسي استراتيجي، وقائد عسكري، ومنظم، وإداري، وكاتب، وخطيب، رسالةً إلى اللجنة المركزية ولجنة الرقابة المركزية للحزب الشيوعي الروسي. أوضح فيها اختلافاته الرئيسية مع طريقة تعامل قيادة الحزب مع السياسة الاقتصادية والحياة الداخلية للحزب الشيوعي الروسي.[1]
نُشرت رسالة تروتسكي في الثامن من أكتوبر/تشرين الأول عام 1923 في عدد 18 أكتوبر/تشرين الأول عام 1993 من 'نشرة العمال الدولية'. أثارت هذه الرسالة ردّ فعلٍ حادّ، إذ شكّلت انتقاداتها للبيروقراطية المتنامية وتأثيرها على حياة الحزب مصدر إلهام سياسيّ لتأسيس المعارضة اليسارية. أثارت في الوقت نفسه، هذه الخطوة هجوماً مضاداً شرساً من جانب أولئك الذين كانوا، بشكل مباشر أو غير مباشر، هدفاً لانتقاداتها. وسرعان ما تأكدت صحة تحذير تروتسكي من خطر الانحطاط السياسي للحزب البلشفي. وفي السنوات التي تلت ذلك، خاضت المعارضة اليسارية، في ظل ظروف متزايدة الصعوبة، صراعاً ضد النفوذ الاجتماعي والسياسي المتنامي للبيروقراطية السوفيتية الجديدة، التي تجلّت سيطرتها الخانقة على الدولة والحزب في نهاية المطاف في ديكتاتورية ستالين الشمولية.
من الضروري بهدف فهم أصول المعارضة اليسارية والقضايا التي أثارتها، البدء بدراسة الثورة الروسية والسنوات الست الأولى من عمر الدولة السوفيتية. لنبدأ بعام 1917. لم يسبق في تاريخ البشرية أن شهد تحولاً سياسياً مذهلاً في عام واحد مثل التغيير الذي أحدثته أحداث عام 1917 في روسيا. فحتى نهاية فبراير 1917، حكم روسيا نظام ملكي استبدادي عاد تاريخ حكم سلالته إلى عام 1613. جسد الاستبداد القيصري العلاقات السياسية والاجتماعية المتخلفة لروسيا، وهي أرض شاسعة شكل الفلاحون فيها، الذين عاشوا في جهل عريق، قرابة 90% من السكان. لم يُلغ نظام العبودية حتى عام 1861، وعلى الرغم من هذا الإصلاح، استمرت الغالبية العظمى من الفلاحين في العيش في فقر.
كانت روسيا، عشية عام 1917، أشد دول القوى الأوروبية العظمى تخلفاً. ولكن داخل هذه الإمبراطورية، التي كانت غارقة في ظروف شبه إقطاعية من نواحٍ عديدة، نمت أيضاً، صناعة متطورة للغاية، بتمويل من رأس المال البريطاني والفرنسي والألماني، عملت فيها طبقة عاملة صناعية شديدة التركيز. كان تركيز جماهير العمال في المؤسسات الصناعية العملاقة أكبر في روسيا منه في الولايات المتحدة الأكثر تقدماً بكثير. ففي عام 1914، شكلت المؤسسات التي وظفت ألف عامل أو أكثر 17.8% من إجمالي القوى العاملة. ولكن في روسيا، وظفت هذه الشركات 41.1%. كانت هذه البروليتاريا شديدة التركيز هي التي أكدت نفسها كقوة معارضة مهيمنة للقيصرية والتي وفرت القاعدة الاجتماعية للتطور السريع للماركسية. وهكذا، في ثورة 1905، التي هزت القيصرية من جذورها ولكنها فشلت في الإطاحة بها، لم تلعب البرجوازية الدور الرئيسي، بل لعبته الطبقة العاملة. وعلى رأس الطبقة العاملة وقف الاشتراكيون، وكان من أبرزهم ليون تروتسكي، رئيس سوفييت سان بطرسبرغ.
نجت الأنظمة الاستبدادية من عواصف عام 1905. ولكن بعد 12 عاماً، أجبرت المظاهرات الحاشدة التي اندلعت في شاط/فبراير 1917 القيصر على التنازل عن العرش بسرعة وانتقلت السلطة الرسمية إلى أيدي الحكومة المؤقتة. ومع ذلك، كما حدث في عام 1905، لم تتمكن البرجوازية من تأكيد قيادتها للثورة الديمقراطية. وجد الدور والمصالح المستقلة للطبقة العاملة تعبيراً عنه في ظهور مجالس العمال الجماهيرية، أو السوفييتات، في جميع أنحاء روسيا. سيطر المناشفة الاشتراكيون الديمقراطيون المحافظون لفترة وجيزة على هذه السوفييتات. لكن المناشفة رفضوا الانفصال عن الحكومة المؤقتة البرجوازية، وبالتالي، لم ينهوا تورط روسيا في الحرب العالمية الإمبريالية المكروهة أو ينفذوا تحولاً ديمقراطياً ثورياً للعلاقات الاجتماعية في الريف. فقد المناشفة مصداقيتهم بسبب سياساتهم. وبحلول خريف عام 1917، كان البلاشفة بقيادة لينين وتروتسكي أسسوا دعماً ساحقاً داخل الطبقة العاملة في المراكز الصناعية الكبرى؛ وأصبحت قطاعات متزايدة من الفلاحين تعتبر البلاشفة الحزب الوحيد المستعد للقضاء على بقايا العبودية ومنحهم الأراضي. فاز البلاشفة بأغلبية في السوفييتات، و استولوا على السلطة بدعم من هذه السوفييتات في أكتوبر 1917
أكتوبر 1917: انقلاب أم انتفاضة جماهيرية؟
لطالما سادت بين المؤرخين المناهضين للشيوعية فكرة أن ثورة أكتوبر كانت مجرد 'انقلاب' دون دعم شعبي. كتب ريتشارد بايبس، الخبير في الدعاية للحرب الباردة من جامعة هارفارد: 'استولى لينين وتروتسكي ورفاقهما على السلطة بالقوة، وأطاحوا بحكومة ديمقراطية غير فعّالة. بعبارة أخرى، إن الحكومة التي أسسوها نبعت من عمل عنيف نفذته أقلية ضئيلة.'[2]
لا تصمد هذه الرواية أمام التحليل الموضوعي، وقد رفضها الباحثون الأكثر جدية بازدراء. على سبيل المثال، كتب البروفيسور سوني من جامعة ميشيغان: ' وصل البلاشفة إلى السلطة، ليس لأنهم كانوا من المتلاعبين المتفوقين أو الانتهازيين الساخرين، ولكن لأن سياساتهم، كما صاغها لينين في أبريل وتشكلت من خلال أحداث الأشهر التالية، وضعتهم على رأس حركة شعبية حقيقية'. [3]
كتب مؤرخ بريطاني: 'ما من شك أن التحريض والتنظيم البلشفي لعبا دوراً حاسماً في تطرف الجماهير. لكن ما ولد البلاشفة أنفسهم استياءً شعبياً أو شعوراً ثورياً. بل نشأ هذا الاستياء من تجربة الجماهير نفسها مع الاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية المعقدة والأحداث السياسية. بل تمثلت مساهمة البلاشفة في تشكيل فهم العمال للديناميكيات الاجتماعية للثورة، وتعزيز الوعي بكيفية ارتباط مشاكل الحياة اليومية المُلحة بالنظام الاجتماعي والسياسي الأوسع. و حظي البلاشفة بالدعم لأن تحليلاتهم وحلولهم المقترحة بدت منطقية... فعندما أطاح البلاشفة في أكتوبر بحكومة كيرينسكي المؤقتة، بدا ذلك للجماهير المُتألمة وكأنه ليس ضربة قاضية للجسم السياسي بقدر ما كان فعلاً من أفعال القتل الرحيم.'[4]
ولكن ربما أتت أهم شهادة على شعبية الأفكار البلشفية من كتابات أكثر السياسيين تصميماً في عهد لينين إذ كتب مارتوف، خصمه، في رسالة مؤرخة في 19 نوفمبر/تشرين الثاني 1917، أي بعد شهر واحد فقط من استيلاء البلاشفة على السلطة:
هذا هو الوضع. إنه وضع مأساوي. حاول أن تفهم أن ما نواجهه، في نهاية المطاف، هو انتفاضة بروليتاريا منتصرة، أي أن البروليتاريا بأكملها تقريباً تقف وراء لينين وتتوقع التحرر الاجتماعي من الانقلاب. لقد تحدت جميع القوى المناهضة للبروليتاريا. و في مثل هذه الظروف، يكاد يكون من المستحيل عدم الانضمام إلى صفوف البروليتاريا، على الأقل في دور المعارضة.[5]
كان مارتوف، على أقل تقدير، رجلاً نزيهاً، ورغم معارضته لسياسات لينين، كان عليه أن يعترف بأن الثورة التي قادها البلاشفة نُفذت بدعم من الطبقة العاملة.
نظرية الثورة الروسية
سبق الثورة الروسية عام 1917 جدلٌ نظريٌّ طويلٌ حول ديناميكيتها السياسية والاجتماعية. كان من المتفق عليه عموماً بين الماركسيين من مختلف التوجهات أن الثورة القادمة، ستكون ثورةً ديمقراطية نظراً للتخلف الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لروسيا. لكن هذا التوافق انتهى عند هذا الحد. فقد أكد المناشفة أنه تماشياً مع المهام الديمقراطية للثورة، سيعقب الإطاحة بالقيصر إقامة حكومة برجوازية ديمقراطية. وسيكون المستفيدون السياسيون من الثورة، الذين ستنتقل السلطة إليهم حتماً، هم ممثلو البرجوازية الليبرالية.
طرح لينين نظرية أخرى: نظرية 'ديكتاتورية البروليتاريا والفلاحين الديمقراطية '. وأكد أن الثورة ستكون ذات طابع ديمقراطي جوهري، وستقضي على الموروثات السياسية والاجتماعية الرئيسية للإقطاع؛ لكنه رفض أن تُترك قيادة الثورة للبرجوازية، أو يُمكن أن تُترك. بل أصرّ على أن القيادة ستكون في أيدي البروليتاريا والشرائح المتقدمة من الفلاحين؛ وأن سلطة الدولة القائمة على هذا التحالف بين الطبقتين المُستغَلتين ستكون 'الديكتاتورية الديمقراطية للبروليتاريا والفلاحين'. كان هذا موقفاً وسطاً بين ما طرحه المناشفة، و نظرية تروتسكي، نظرية الثورة الدائمة.
طرح تروتسكي أنه في القرن العشرين، الذي كانت بيئته الاقتصادية والاجتماعية، من منظور التطور الشامل للرأسمالية والقوة الاجتماعية للبروليتاريا الصناعية، مختلفة نوعياً عن بيئة أواخر القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فإن الثورة الديمقراطية في روسيا لن تقتصر على إعادة إنتاج التجارب التاريخية لأوروبا الغربية وأمريكا الشمالية. وأصر على أن البروليتاريا، بتوليها قيادة الثورة الديمقراطية، ستُجبر، بحكم موقعها، على الاستيلاء على السلطة السياسية والشروع في إجراءات اشتراكية موجهة ضد أسس الملكية الرأسمالية. وهكذا، تنبأ تروتسكي، منذ عامي 1906 و1907، بأن الثورة الديمقراطية في روسيا ستتجلى على شكل ثورة اشتراكية، تنتهي باستيلاء الطبقة العاملة على السلطة السياسية.
في ظلّ الأجواء المشحونة للانقسامات الروسية قبل عام 1917، حظي تروتسكي بمكانةٍ مميزةٍ ميّزته عن المناشفة والبلاشفة. وجّه لينين العديد من انتقاداته اللاذعة نحو تروتسكي. وكانت انتقادات لينين مُبرّرة في القضايا المتعلقة بالتنظيم السياسي. وكانت جهود تروتسكي للتوفيق بين البلاشفة والمناشفة مُضلّلة. إلا أن تقييم تروتسكي لديناميكيات الثورة الروسية كان مُبرّراً. ومن دلائل موضوعية لينين السياسية أنه لم يسمح للخلافات الفصائلية القديمة بأن تُعكّر صفو حكمه. وبهذه الصفة الحاسمة، كان لينين رجلاً أعظم بكثير من كثيرين ممن كانوا أقرب إليه في قيادة الحزب البلشفي. وهكذا، عند عودته إلى روسيا في إبريل/نيسان 1917، تبنى لينين، وسط دهشة زملائه القدامى في الحزب البلشفي، زينوفييف، وكامينيف، وستالين، المبادئ الأساسية لنظرية تروتسكي في الثورة الدائمة، ووضع أمام البلاشفة مهمة الإطاحة بالحكومة المؤقتة البرجوازية وإقامة نظام بروليتاري.
لا شك أن التغيير في تفكير لينين كان نتاجاً لتحليله لأصول الحرب العالمية الأولى وأهميتها التاريخية، الذي تجلى في كتابه الرائع 'الإمبريالية: أعلى مراحل الرأسمالية' (1916). كانت الحرب العالمية في نظر لينين بمنزلة بداية مرحلة جديدة في تاريخ العالم. مثّلت الحرب أزمة تاريخية للنظام الرأسمالي العالمي بأسره، وأصرّ على أنها يجب أن تُشكّل نقطة انطلاق لفهم طبيعة الثورة الروسية ومهامها.
لذلك، عندما اندلعت الثورة في روسيا في فبراير 1917، لم تكن بالنسبة للينين بداية التحول الديمقراطي البرجوازي لروسيا، بل بداية الثورة الاشتراكية العالمية.
تناقضات الثورة الروسية
ما اعتقد لينين ولا تروتسكي أن روسيا، بالنظر إلى مستوى تطورها الاقتصادي فحسب، جاهزة للاشتراكية. بل إنها تخلفت كثيراً عن الدول الرأسمالية في أوروبا وأمريكا الشمالية. كانت الثورة الاشتراكية ضرورية في روسيا لأن الظروف العالمية ما تركت أي إمكانيات أخرى للتنمية الوطنية التقدمية. لو 'امتنع' البلاشفة عن الاستيلاء على السلطة، بحجة ضعف التنمية الاقتصادية في روسيا، لما كانت نتيجة عام 1917 ظهور ديمقراطية ليبرالية قائمة على رأسمالية مزدهرة. بل لكانت روسيا عانت مصير الدول المتخلفة الأخرى في العصر الإمبريالي: أي استمرار التخلف والتبعية شبه الاستعمارية. و تجلت دقة هذا الحكم، ليس فقط في محاولة انقلاب الجنرال كورنيلوف في أغسطس 1917، بل في مجمل مسار الحرب الأهلية التي أعقبت استيلاء البلاشفة على السلطة.
ما كان إذن منظور البلاشفة واستراتيجيتهم؟ لقد أجبرتهم الظروف العالمية على الاستيلاء على السلطة وإطلاق ثورة اشتراكية في بلد متخلف. ولكن نظراً لأن روسيا كانت أدنى بكثير من مستوى التطور الاقتصادي والثقافي اللازم لتحقيق الاشتراكية، فإن بقاء ديكتاتورية البروليتاريا وتحقيق الاشتراكية في نهاية المطاف اعتمدا على استيلاء الطبقة العاملة على السلطة في واحدة أو أكثر من الدول الرأسمالية المتقدمة. عندها فقط، ستتمكن روسيا السوفيتية من الوصول إلى الموارد الاقتصادية اللازمة لتحويل اقتصادها إلى نمط اشتراكي.
هل كانت استراتيجية البلاشفة صحيحة؟
انطوت استراتيجية البلاشفة على ثقة كبيرة في النضج السياسي للطبقة العاملة، وكذلك في التطور المتقدم للتناقضات الاجتماعية داخل الرأسمالية الأوروبية والعالمية. قد يتساءل المرء اليوم: إلى أي مدى كان هذا مُبرراً؟ للإجابة على هذا السؤال، لا بد من مراجعة استراتيجية البلاشفة في سياقها التاريخي الصحيح. روزا لوكسمبورغ، التي لم تكن أبداً غير نقدية في موقفها من استيلاء البلاشفة على السلطة، لم تتردد في مدح هذا الجانب تحديداً من سياسات لينين وتروتسكي. وكتبت من زنزانتها في سجنها بألمانيا:
اعتمد مصير الثورة في روسيا كلياً على الأحداث الدولية. إن بناء البلاشفة سياستهم بالكامل على الثورة البروليتارية العالمية هو أوضح دليل على بُعد نظرهم السياسي وثبات مبادئهم وجرأة سياساتهم.[7]
في الواقع، كانت ثورة أكتوبر تعبير وحافز لأعظم حركة ثورية في تاريخ العالم. ففي جميع أنحاء أوروبا، وحتى في الولايات المتحدة، شعرت الأنظمة البرجوازية بأنها عرضة بشكل غير عادي للمشاعر التي أطلقتها الحرب العالمية. ففي غضون عام واحد من ثورة أكتوبر، كانت ألمانيا ومعظم أوروبا الوسطى في خضم اضطرابات ثورية، وبدا كما لو أن الاستراتيجية البلشفية قد تم إثباتها.
وإن لم تنجح هذه الثورات، أي الثورات في ألمانيا، والثورة في المجر، والاضطرابات التي حدثت في جميع أنحاء أوروبا الوسطى، فإنها لم تُظهر الطابع الطوباوي للاستراتيجية البلشفية، بل بينت ضعف القيادة السياسية للطبقة العاملة خارج روسيا. لم يكن هناك في أوروبا أي حزب ضاهى البلاشفة من حيث جودته السياسية وقدرة قيادته. وكمنت أسباب ذلك في الانحطاط الانتهازي للأحزاب الاشتراكية الأوروبية، التي خانت الطبقة العاملة في بداية الحرب الإمبريالية عام 1914.
كان لهزيمة الطبقة العاملة الألمانية في عامي 1919-1918، واغتيال لوكسمبورغ وليبكنخت، أثرٌ مُدمرٌ على مسار الثورة الألمانية، وكان له أثرٌ بالغٌ على مستقبل الاتحاد السوفيتي. أمل البلاشفة أن تُعقب الثورة في روسيا حركاتٌ ثوريةٌ للطبقة العاملة في جميع أنحاء أوروبا، وقد بنوا سياساتهم على هذا الأساس.
الحرب الأهلية وشيوعية الحرب
منذ اللحظة الأولى، اضطرت الحكومة إلى النضال من أجل بقائها. ورث البلاشفة، من بين أمور أخرى، الحرب العالمية الأولى، التي كانت روسيا لا تزال متورطة فيها. و أظهرت الاستراتيجية التي اتبعها البلاشفة في مفاوضاتهم مع القيادة العليا الألمانية لإنهاء تلك الحرب بوضوح تام توجههم الاستراتيجي. ففي شتاء 1917-1918، انخرط تروتسكي، في بريست ليتوفسك، في نوع من المفاوضات لم يشهده تاريخ العالم من قبل. لم يخاطب الحكومة الألمانية ولا هيئة الأركان العامة الألمانية، بل البروليتاريا الألمانية والعالمية. أمل أن تُظهر فضائح الحرب علناً، مثل نشر المعاهدات السرية بين الحكومة الروسية القديمة والحكومات الإمبريالية الأخرى، للجماهير الطابع الرجعي المطلق للحرب، وأن تُسرّع من وتيرة المشاعر الثورية التي تطورت على الجبهة. وما كان تروتسكي، في حساباته، بعيداً عن الحقيقة. أدى التحريض الذي قاده البلاشفة إلى إضعاف معنويات الجيش الألماني. اندلعت مظاهرات حاشدة في ألمانيا، لكن ما اندلعت الثورة التي أمل بها البلاشفة. حدث ذلك بعد حوالي ثمانية أو تسعة أشهر. في غضون ذلك، اضطر البلاشفة إلى توقيع سلام صعب لكسب الوقت للنظام الثوري ريثما توفر الأحداث الدولية دعماً من الطبقة العاملة الدولية للجمهورية السوفيتية المحاصرة.
لكن توقيع اتفاقية السلام في بريست ليتوفسك في مارس 1918 لم يضع حداً لمشاكل البلاشفة. أثار قرار الانسحاب من الحرب غضب جميع الحكومات الإمبريالية التي كانت متحالفة مع روسيا القيصرية. توقعت بريطانيا وفرنسا، اللتان انضمت إليهما الولايات المتحدة، بغطرسة أن الحكومة الروسية، حتى في عهد البلاشفة، ستفي بالتزامات القيصر القديمة وتستمر في توفير وقود للمدافع للحرب. جاءت معاهدة بريست ليتوفسك بمنزلة صدمة. ولكن بمجرد أن تعافوا من هذه المفاجأة غير المرغوب فيها، شجع الحلفاء وقدموا الدعم العسكري والمالي المباشر لمجموعة من الضباط القيصريين القدامى لغرض الإطاحة بالبلاشفة. لولا هذا الدعم، لما اتخذت الحرب الأهلية تلك الأبعاد المأساوية. في النهاية، خاض البلاشفة حرباً أهلية على 14 جبهة مختلفة عبر ساحة معركة امتدت حوالي 5000 ميل.
لم تتمكن الطبقة العاملة الدولية من الإطاحة ببرجوازياتها، لكن تعاطفها مع روسيا السوفيتية، و انطبق هذا بشكل خاص على عمال فرنسا وإنجلترا، كان العامل الحاسم في فشل التدخل الإمبريالي إلى جانب البيض. وهذا فسر أيضاً ضعف التدخل الأمريكي. أرسل الرئيس وودرو ويلسون قوات لمحاربة البلاشفة. أنزلت الولايات المتحدة قوة استكشافية في أرخانجيلسك، شمال موسكو. في الواقع، يوجد مقابل قاعة كوبو في وسط مدينة ديترويت معرض صغير مخصص لذكرى حملة 'الدب القطبي' المنكوبة، التي أطلقها ويلسون ضد الحكومة البلشفية عام 1918. إنه أحد جوانب التاريخ الأمريكي التي لا يُعرف عنها الكثير، لكن حكومة الولايات المتحدة لعبت دوراً رئيساً في محاولة الإطاحة بنظام لينين وتروتسكي عام 1918. لكن القوات ضلت طريقها بطريقة ما، وكان لا بد من إنقاذها، وانتهت المغامرة بأكملها بشكل مخزٍ كما بدأت.
على الرغم من قدرة البلاشفة على الصمود في وجه تدخل الإمبرياليين، إلا أن الحرب الأهلية دمّرت روسيا السوفيتية ناهيك عن تأثيرها العميق على مسار السياسة الثورية. وبهدف إنقاذ الحكومة الثورية، ركّز البلاشفة السلطة الاقتصادية والسياسية بين أيديهم. ففي حزيران/يونيو 1918، صدر أول مرسوم بتأميم جميع فروع الصناعة الرئيسية. ما كان ضمن نية البلاشفة اتخاذ مثل هذه الإجراءات الشاملة ذات الطابع شبه الاشتراكي، التي ما كان الاقتصاد مستعد لها، ولكن فُرضت عليهم بسبب ضرورة إمداد الجيش الأحمر، الذي بُنى كقوة قتالية قوامها قرابة خمسة ملايين فلاح بقيادة ليون تروتسكي. لم يكن على الحكومة السوفيتية فقط صنع الأسلحة وتوفير الملابس للجيش الأحمر، بل كان عليها أيضاً إطعام الجنود؛ وقد تحقق ذلك إلى حد كبير من خلال الاستيلاء القسري على الحبوب من الفلاحين. لم تكن هذه السياسة شائعة بالتأكيد، لكنها كانت مستدامة طالما أدرك الفلاحون أنه في حال الإطاحة بالبلاشفة، سيعود الإقطاعيون. لذا، كان الفلاحون مستعدين لقبول هذه السياسة طالما اعتبروا البلاشفة القوة التي تحميهم من طغيان الإقطاعيين.
بحلول عام 1920، هزم الجيش الأحمر تقريباً جميع القوى المضادة للثورة ، لكن اقتصاد روسيا السوفيتية كان في حالة انهيار فعلي. كان حجم الدمار مذهلاً. أشارت التقديرات إلى أنه بحلول نهاية الحرب الأهلية، في عامي 1920 و1921، مات حوالي 20 مليون شخص من الجوع. علاوة على ذلك، فقدت موسكو بين عامي 1917 و1920 44.5 في المئة من سكانها؛ وخسرت بتروغراد، أكبر مركز صناعي، 57.5 في المئة من مواطنيها. تُعد هذه الأرقام ذات أهمية خاصة لأنها تُلقي بعض الضوء على مصير الطبقة العاملة نفسها في أعقاب الثورة. نشأت العديد من المشاكل التي ستواجه الحكومة البلشفية لاحقاً من التفكك الاجتماعي للطبقة العاملة الروسية في أعقاب الثورة. بحلول عامي 1923 و1924، حدثت تغييرات هائلة في البنية الاجتماعية لروسيا. هُزمت البروليتاريا الثورية التي ساندت ثورة أكتوبر بسبب الحرب الأهلية التي فرضتها الإمبريالية العالمية على الجماهير الروسية. في هذا الإطار، يجب أن نبدأ بفهم سلسلة الأحداث التي أدت إلى تشكيل المعارضة اليسارية عام ١٩٢٣.
للبحث صلة
[1] Leon Trotsky, October 8, 1923 Letter to the Central Committee and the Central Control Commission of the Russian Communist Party. URL: https://www.wsws.org/en/articles/2023/10/09/iwgy-o09.html.
[2] Richard Pipes, 'Why Russians Act like Russians,' Air Force Magazine (June 1970), 51-55.
[3] Ronald G. Suny, “Revising the old story: the 1917 revolution in light of new sources”, in: The Workers’ Revolution in Russia 1917: The View from Below, ed. by Daniel H. Kaiser, Cambridge University Press 1987, 19.
[4] Steve A. Smith, 'Petrograd in 1917,' in: The Workers' Revolution in Russia, 1917, 52.
[5] Vladimir Brovkin (ed.), Dear Comrades. Menshevik Reports on the Bolshevik Revolution and the Civil War, Hoover Institution Press 1991, 52.
[6] Rosa Luxemburg, The Russian Revolution. URL: https://www.marxists.org/archive/luxemburg/1918/russian-revolution/ch01.htm.